مجتمع

منصة محمد السادس للحديث الشريف…قطراتٌ مِن يَمِّ الدلالات

محمد التهامي الحراق

حدث علمي وديني متميز…ذاك الذي يمثله إطلاق منصة محمد السادس للحديث الشريف، إذ يحمل دلالات شتى، ومعاني جمة، نجتبي منها ما يلي:

1_ إبراز العناية المغربية بالحديث النبوي الشريف، وهي عناية تمتد على مدى قرون حفظا وتأليفا وتصنيفا وشرحا ودرسا وتدريسا ونقشا وتداولا…؛ مما يعبر عن المكانة المركزية الراسخة للشخصية النبوية في تاريخ تدين المغاربة؛ وتمسكهم بالسنة النبوية الشريفة، وتعلقهم الفارضي بالكمال المحمدي.

2_ الاستجابة للحاجة المتفاقمة للمتدينين إلى معرفة حصيفة ومنصفة بالحديث النبوي الشريف وفق علومه المقررة في التعديل والتجريح والمصطلح والرجال والفهم والتنزيل…؛ خصوصا إزاء ظهور فريقين متطرفين يغذي أحدهما الآخر؛ فريق يأخذ الأحاديث النبوية بلا تمحيص ويسيءاستعمالها، فيؤسس عليها، بغير علم ولا أخلاق، أحكاما ضالة ومضلة، فاسدة ومفسدة للفرد والجماعة؛ وفريق يريد أن يلغي السنة النبوية بإطلاق، ويرى، بغير علم ولا أخلاق، كل الأحاديث تقولات على الرسول الكريم في هدم لواحد من الأركان الرئيسة للدين ومصدر أساس من مصادر الشريعة الإسلامية.

3_ الإسهام في ترشيد التعامل مع الحديث النبوي الشريف وفق أسس منهجية علمية تجلي أعمال الأجداد في علوم الحديث، وتنقي التعامل مع هذه العلوم من الرؤى المستحدثة التي خالفت في كثير من “آرائها” إجماع الأمة، خدمة لتوجهات إيديولوجية معينة، كانت من أسباب شيوع ثقافة الكراهية والتكفير والتطييف الممزقة للوحدة الدينية الإسلامية، والمعادية للقيم الكونية المتوافقة مع روح الرحمة التي بعث بها المصطفى صلى الله عليه وسلم للعالمين.

4_ تثمين علمائنا اليوم لمجهودات الأجداد، والاجتهاد في استئنافها طلبا للذود عن الحديث النبوي الشريف، وتصحيح مسارات التعامل غير الرشيد معه؛ وبيان درجات صحة الحديث النبوي، ومناطات فهمه وتنزيله؛ أي استئناف العناية بالحديث الشريف سواء على مستوى السند أو المتن أو الفهم أو التنزيل، وهو عمل علمي لا ينتهي بحكم تغير الأحوال وتبدل السياقات وصيرورة التاريخ.

5_ تقديم نموذج تديني مغربي متكامل، يُعتنى فيه بكل مستويات التدين تأطيرا وتكوينا وإعلاما وعملا ورعاية؛ وذلك ضمن مسار إصلاحي يشرف على استكمال عقدين من البذل المتواصل؛ كان من آخر مظاهره إطلاق “الدروس الحديثية لإذاعة وقناة محمد السادس للقرآن الكريم” بتاريخ الجمعة 23 صفر 1440 (02 نوفمبر 2018)، والتي توجت اليوم بهذه المنصة. وهنا لا يجب أن تغيب عنا دلالة أن تحمل المنصة اسم أمير المومنين؛ ففي ذلك آية بينة على دور هذه المؤسسة في حماية الدين وصون أسسه من العبث التشددي تعصبا للدين أو العبث التشددي تعصبا ضد الدين؛ وهو أيضا ترسيخ لأهمية عمل العلماء ودورهم في هذا الباب، وكذا لأهمية وضرورة النأي بالثوابت الدينية عن التجاذبات الايديولوجية وتدافعها السياسي والاجتماعي.

6_ والناظر في أبواب المنصة سيكتشف لا محالة الأفق المغربي لعملها، والمتوافق مع سائر الاختيارات المغربية في التدين عقيدة وفقها وسلوكا وثقافة روحية، كما أنه يسجل الطابع الدينامي للمنصة، وانفتاحها على التفاعل مع أسئلة الناس واستفساراتهم، مما ينبي عن البعد التنويري والاجتهادي المنفتح الذي يطبع المنصة؛ كما ينبي عن سعيها لخلق فضاء من العمل الرقمي العلمي الجاد ذي الامتداد العالمي، مما يثبِّت البعد الكوني للنموذج الديني المغربي، وانخراط علمائه في رهانات اللحظة الروحية المعاصرة، من خلال التفاعل مع الأسئلة المتعلقة بالحديث النبوي الشريف، والقادمة من مختلف بقاع المعمور.

7_ وأخيرا لا آخرا، فإن في هذه المبادرة الملكية دعوة إلى خدمة الدين بالعلم، وذلك بالجمع بين استيفاء الاطلاع على مصادر المعرفة الإسلامية والتمكن العميق والراسخ من علومها الأصيلة؛ وكذا الانفتاح على رهانات الواقع، وأسئلة العصر، وسياقات التنزيل المستجدة؛ وهو ما لا يمكن للكتب أن تجيب عنه؛ بل لابد من علماء مجتهدين عارفين بزمانهم وخصوصياته السياسية والتاريخية والثقافية والاقتصادية والعلمية والتواصلية والديموغرافية….إلخ؛ وقادرين، فضلا عن تنخيل الحديث الصحيح من الضعيف من الموضوع…؛ قادرين على حسن فهم النصوص وتنزيلها وفق المقاصد الكلية للشريعة، وفي نظر متساوق مع الرؤية العقدية والتعبدية والأخلاقية والتشريعية القرآنية، وبما يصحح صورة الإسلام ونبي الإسلام في متخيل سقيم؛ يعمل اليمينيون المتطرفون والإسلامفوبيون في الغرب على إشاعته ظلما وكراهية.
إنها مبادرة تضع لبنة أخرى لعمل علمي بقدر ما يروم صون الدين وحمايته، بقدر ما يروم القيام بذاك الصون و تلك الحماية من خلال تثمين العلم، والتحفيز على الاجتهاد المنفتح على الراهن، والمستشرف لحضور خلاق للدين في صناعة المستقبل؛ وذلك في مشروع متناسق المكونات قاده، بإيمان وتميز ونفاذ بصيرة، أمير المومنين محمد السادس منذ إعلانه عن إعادة هيكلة الحقل الديني بالمغرب في خطابه بتطوان عام 2004.

منصة محمد السادس للحديث الشريف...قطراتٌ مِن يَمِّ الدلالات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اثنا عشر + عشرة =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض