الرأي الحر

لابوبو… حين تضحك الدمى على البشر

في زاوية مظلمة من صخب العالم الرقمي، حيث تتقاطع الأهواء العابرة مع الحنين الغامض لطفولة مفقودة، ووسط زحام تريندات لا تترك للمُتصفّح وقتًا ليلتقط أنفاسه، وُلدت لعبة عجيبة تدعى “لابوبو”، دمية تحمل ملامح غرائبية لم تعهدها الدمى البريئة من قبل، قَسمات وجهها شبحٌ بين الجمال والقُبح، تبتسم بسخرية خفيّة كأنها تسخر من أولئك الذين يهرولون خلفها، تارة باسم الطفولة، وتارة باسم الموضة، وتارة أخرى طلبًا للانتماء إلى قطيعٍ رقمي يقرر لك ما تحب وما تكره. تلك اللعبة التي خطفَتِ القلوب دون سابق إنذار، خرجت من بين أنامل فنانٍ صيني مجهول إلى أن أصبحت توقيعًا جديدًا على جدار الثقافة الاستهلاكية المعاصرة.

لم تكن لابوبو في بدايتها سوى فكرةٍ في دفتر رسم قديم، مخلوقًا صغيرًا استوحاه صاحبه من الأساطير النوردية، مزيجًا بين قزمٍ خرافي وكائن بريء يبدو كطفلٍ عابث، لكنها ما لبثت أن عبرت بوابة الصدفة حين وقعت في يد شركة Pop Mart، تلك المؤسسة التي تحترف تحويل اللعب إلى هوس، والهوس إلى أرقام، والأرقام إلى صفقات تتراقص فوق أسطح بورصات هونغ كونغ. ومع إدراكهم لحكمة الأسواق الجديدة، أدركوا أن التسويق لم يعُد فكرة تقليدية تحفر في الجدران الباردة للملصقات، بل موجة إلكترونية طيّعة تُشكَّل وفق نزوات الجمهور الافتراضي.

تسلّلت لابوبو من رفوف المتاجر إلى قصور المشاهير، إلى أن أمست جزءًا من أناقة ريهانا، وكيم كارداشيان، ولِيسا من بلاكبينك، وغيرهن من عرّابي التريندات، من أولئك الذين لا يتحرك العالم إلا حين تلمع إحدى إطلالاتهم في عيون المتابعين. ومع كل صورة، ومع كل مقطع تفريغ صندوق “Blind Box” مجهول المحتوى، كانت اللعبة تكبر، تتكاثر على الشاشات، وتدخل البيوت دون استئذان، كأنها رسالة خفيّة تخبرك بأن الحاضر ليس ما تختاره، بل ما يُختار لك.

إنها الحكاية المثالية لزمنٍ سريعٍ هشّ، حيث يصنع التريند ملايينه من فكرةٍ قد تبدو بلا قيمة، ويدفع الناس أموالهم لا لامتلاك منتجٍ ضروري، بل ليشعروا بأنهم جزء من جوقةٍ تغنّي على نغمة واحدة. تلك اللعبة الصغيرة تحولت إلى سلعة نادرة تجاوزت أسعارها في المزادات 150 ألف دولار، تارةً كقطعة فنية، وتارةً كمقامرة، وتارةً أخرى كرمز ثقافي لجيلٍ يلاحق التريند كمن يطارد سرابًا يتبدّد كلما اقترب منه.

وراء هذه اللعبة، يقف التسويق الإلكتروني متأنقًا كقائد أوركسترا، يُدير المشهد بحنكة خفية. يتفنّن في اختيار المؤثّرين، يزرع الفيديوهات في الوقت المناسب، ويستثمر في الندرة كأنها معدنٌ نفيس، يقطف من جوع الناس إلى المختلف، إلى الاستثنائي، إلى المفاجئ، في زمنٍ صارت فيه المفاجآت نادرة. لا يتعلق الأمر بجمال اللعبة أو فرادتها، بل بطريقة سرد القصة حولها، ببناء أسطورةٍ رقمية تروَّج لها في وجدان المتابع قبل شاشة هاتفه.

لقد فهم صُنّاع لابوبو وغيرهم من مسوقين التريندات أن العالم اليوم تحكمه خوارزميات المزاج، وأن المال ليس في السلعة، بل في الحكاية التي تحيط بها. فكل دمية من تلك الدمى تحكي حكاية انتظار، وندرة، وحظ، وربما انتماء إلى طائفة إلكترونية لا ترى في العالم إلا صورًا متحركة تُستهلك بسرعات مضاعفة.

وتبقى الحكاية الأجمل في أن هذا التريند وغيره من الظواهر المشابهة، يكشف عن شهوة السوق الحديثة للأفكار الغريبة، وعن سطوة الإعلان غير المباشر الذي يتسلل في هيئة صورة على حساب نجم، أو هاشتاغ عابر يتحوّل بين ليلة وضحاها إلى حديث الصباح والمساء.

فهل تملك أذواقنا حقًّا أن تُقرّر؟ أم أننا دخلنا عصرًا أصبح فيه الذوق العام سلعة تُصنّعها يد خفية، وتوجّهها خوارزمية ذكية، وتبيعها لنا بوجه دمية تبتسم ساخرة؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

أربعة × 3 =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض