ثقافة

حاجة المسلمين لفهم منطق المعنى ومنطق الحقيقة

الدكتور محمد التهامي الحراق
يؤلمني حجم المغالطات المقدمة حول القرآن الكريم باسم بعض منتحلي شعار “التنوير”؛ فيما لا يمت تعاملهم “العلمي!!” مع القرآن الكريم إلى العلم بصلة. تراهم يجلبون المعطيات المتناقضة والتأويلات المتهافتة من أجل وصل القرآن الكريم بالمكتوبات السابقة الكتابية وغير الكتابية؛ اليهودية والمسيحية والنصوص الحافة بهما، وكذا بعض الكتابات المقدسة السريانية وغيرها؛ وكأن القرآن الكريم يُنْكِر أنه جاء حلقة خاتمة للكتب السماوية السابقة، وأنه جاء مُصَدِّقا لما بين بيديه من الكتب ومُهَيْمِنا عليها؛ وكأن النبي الكريم ليس خاتما للأنبياء بالمعنى الجدلي للختمية، أي الاستيعاب والتجاوز؛ وكأن القرآن الكريم يلغي التاريخ ولا يعترف به ويؤسس للتعالي والقداسة من داخله وبالتفاعل معه؛ وكأن القرآن الكريم لم يستطع أن يصوغ حضارة إنسانية كونية من قلب هذه التفاعلات لا بإلغائها.
كثيرة هي هذه “الأبحاث” ذات الحافز الإيديولوجي الحاقد؛ إذ تعتمد الإدانة المسبقة بدل اعتماد التحليل النقدي العلمي الذي يلتقط الدينامية التاريخية التي خلقها هذا النص، مثلما يلتقط الانحرافات التاريخية التي حصلت باسم القرآن والدين. لنؤكد أن القرآن الكريم يجب أن يُقَاربَ بمنطق المعنى لا بمنطق الحقيقة؛ أي أن يُفْهَم كيف يُنتِج ويُغذِّي المعنى الوجودي في المؤمنين، ومن ثم يسهم في تحويل إيمانهم إلى فعل تاريخي مُشيِّدٍ للعمران صانع للحضارة؛ بدل أن يُقارَبَ بمنطق الحقيقة الذي له شرعيته الإبستمولوجية، لكنه سيظل رهينا بمسارات الأبحاث الحفرية، وتطوراتها النسبية، واستعمالاتها المتجاذبة بين العلمي والإيديولوجي.
نحتاج من المسلمين اليوم، أكثر من أي وقت مضى، لكي يبذلوا من أجل صياغة سردية قرآنية جديدة تجيب عن الأسئلة الوجودية والمعنوية والرمزية والروحية والأخلاقية التي تؤرقنا في السياق المعاصر. ولا سبيل إلى ذلك دون التمكن من معارف الأجداد في التعامل مع النص، وامتلاك المعارف المعاصرة الطبيعية والإنسانية على السواء من أجل فهم اللحظة المعاصرة، والاجتهاد النقدي في تقديم رؤية قرآنية للعالم تجيب من داخل الأفق الغيبي الشعائري والتشريعي التاريخي والقيمي الأخلاقي للنص على إشكالات الهنا والآن؛ إشكالات المعنى والروحانية والأخلاق والوجود، وأحوال النفس، وتواشجات الصلة بالمطلق والنسبي، والعلاقة مع الذاكرة ومع المستقبل ومع اللامرئي، ودينامية القيم، وتدبير الاختلاف، ومحدودية الكينونة البشرية، ونزوعات تجاوزها لمحدوديتها، وتطورات مفاهيم الأسرة والزواج والتواصل والإنسان والزمان والمكان  والبيئة والحقيقة والاجتماع والحقوق….إلخ.
إنها مجرد نماذج من الآفاق التي يجب تناولها خارج منطق الفتوى والحلال والحرام؛ بل من منظور إنسي رحموتي كوني يخاطب الفطرة ويستثير المُشترَك فيها بين الناس على اختلاف ثقافاتهم ومرجعياتهم بشكل يعيد للرؤية القرآنية قوتها  التنويرية الكونية ضمن الابستيمية المعاصرة.
ذاك هو رهان المسلمين. إنه رهان المعنى الذي سيجعل تلك الاقترابات البغيضة النوايا  من القرآن الكريم باسم الحقيقة، اقترابات داحضة متهافتة من تلقاء نفسها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

5 × واحد =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض