
ثقافة
في اختلاف النظر للقرآن الكريم بين عبد الله العروي وعبد اللطيف العروي…
الدكتور محمد التهامي الحراق
_1_

بخلاف ما يحفل به كتاب “السنة والإصلاح” لأستاذنا عبد الله العروي من إشراقات حول القرآن الكريم لغة، وأفقا، ورؤيا…، ومن معالجة تشج بين التاريخ واعتبار التعالي سواء في النظر إلى الذكر العزيز أو النبي الخاتم _ وهو ما يستوجب إعادة الاستكشاف أمام قلة القراءات التي حاولت التعرف على اقتراب صاحب “السنة والإصلاح” من القرآن الكريم في ضوء مساره الفكري، لكن بعيدا عن كل نظر انغلاقي يسجنه في ما كتبه آنفا سواء في “الايديولوجية العربية المعاصرة” او “العرب والفكر التاريخي” أو في سلسلة المفاهيم…ولا ينظر إلى فكره في ديناميته وتجديده لانتمائه لنفسه_ بخلاف هذا النفس القرآني المتوهج في كتاب “السنة والإصلاح”، سنجد باحثا آخر له صلة نسب بمفكرنا، وهو الأستاذ عبد اللطيف العروي، يصدر كتابا باللغة الفرنسية في السنة الماضية عن القرآن الكريم، يذهب فيه مذهبا مغايرا، ويؤسس فيه لفهم “جريء”، يفصل فيه بين القرآن وكلام الله؛ كما يوحي بذلك عنوانه: “من فكر الإله إلى كلام النبي”
(De la pensée de Dieu à la parole
du Prophète” ).

_2_
تقوم الأطروحة الرئيسة لكتاب عبد اللطيف العروي على كون الواقع المتخلف للمسلمين اليوم يؤوب في نهاية التحليل، وبعد النظر في عوامله المتآثرة المختلفة، إلى انغلاق الثقافة الإسلامية، وعدم قدرتها على التحرر من الفهم الحرفي للنص القرآني، وانسجانها بثقافة عربية بدوية بائدة تحت ذريعة تمسكها بالنص القرآني وبأحكامه. لذا يرى أن المفتاح في القيام بزحزحة مفهوم كلام الله، بحيث يضحي القرآن الكريم نتاج إلهام إلهي خالد، لكنه مصوغ بلغة النبي وكلامه، مترجم إلى قومه بحسب ثقافتهم وعاداتهم وأعراف بيئتهم وسقف إدراكهم. الأمر الذي يعني أن القرآن هو ترجمة نبوية تاريخية نسبية للفكر الإلهي الخالد في كلام نسبي تاريخي بشري هو من صياغة النبي الكريم حسب لغته وثقافته ولحظته التاريخية. فالقرآن الكريم فكر إلهي “نزل على قلب النبي”، وقام النبي بتصييغه في كلام بشري. وهو ما يعني أن من حقنا أن نستلهم أيضا ذاك الفكر الإلهي الخالد لنعيد تصييغه وتحيينه في سياقنا التاريخي، بما يلائم ثقافتنا وبيئتنا وأسئلتنا ورهاناتنا، وحسب ما بلغه تطورنا الحضاري في السياق المعاصر الذي يختلف جذريا عن السياق الذي حكم تصييغ النبي الكريم للفكر الإلهي، وترجمته لهذا الفكر المطلق في كلامه النسبي والتاريخي. ثم يأتي الأستاذ عبد اللطيف العروي بجملة نماذج وتحليلات ليزكي بها أطروحته، مثل آيات الرق وملك اليمين والعلاقة بالمرأة كعدة الطلاق والإرث….إلخ.
_3_
لست هنا بصدد العرض التفصيلي للكتاب، والذي سأعود إليه ضمن تحليل أوسع في عمل قادم بحول الله، بل القصد هنا هو بيان الفرق بين تعامل منهاجي حذر يأخذ بعين الاعتبار الأفق الإيماني أثناء النظر التاريخي لدى المفكر عبد الله العروي، وبين تعامل تاريخي، في نظرنا مغال ومنغلق، يذهب إلى حد الفصل بين القرآن وكلام الله، واعتبار القرآن الكريم تصييغا تاريخيا نسبيا نبويا للفكر الإلهي المطلق المبثوث في النص وفي الكون، بحيث نكون في القرآن، حسب عبد اللطيف العروي، إزاء فكر إلهي صاغه النبي بلغته، أي نكون مع القرآن الكريم إزاء كلام النبي لا إزاء كلام الله. وهذا مثال جلي على ما أبرزناه في مقال سابق من اعتماد صاحب “السنة والإصلاح” نظرا تاريخيا غير متطرف، بحيث لا يلغي التعالي ولا الاعتبار الإيماني في التعامل مع وحيانية القرآن الكريم ولغته الذكرية.
_4_
طبعا، لا يمكننا الإشارة إلى أطروحة الأستاذ عبد اللطيف العروي، دون الإشارة العابرة إلى بعض من ملاحظاتنا العديدة عليها؛ وفي مقدمة ذلك الإشارة إلى أن هذه الأطروحة واردة بهذه الصيغة أو تلك عند عدد من الباحثين والمفكرين المعاصرين، أمثال أحمد خان، وعبد الكريم سروش، وعبد الوهاب المؤدب، وأحمد القبانجي، جاكلين الشابي….، ثم هي استلهام منحرف ولا تاريخي لنظرية خلق القرآن لدى المعتزلة؛ كما أن هذه الأطروحة تناقض ما يؤكده القرآن نفسه في أكثر من موضع بكونه كلام الله، وبكونه وحيا منه معنى ومبنى، وليس من عندية الرسول ولا من تصييغه أو إنشائه، ولا دخل له فيه، بل هو مجرد مبلغ ومتبع، قال تعالى: “وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِم آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ ۙ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَٰذَا أَوْ بَدِّلْهُ ۚ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ۖ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ”(يونس15)؛ وقال أيضا :”وَمَا كَانَ هَـٰذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَىٰ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَـٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ” (يونس، 37)؛ بل جاء توصيف صريح للقرآن بكونه كلام الله في قوله تعالى: “أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَٰمَ ٱللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُۥ مِنۢ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ” (البقرة، 75)؛ أو في قوله: “وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ” (التوبة، 6)….
_5_
طبعا، لا نطعن في النية الإصلاحية للأستاذ عبد اللطيف العروي، ولا في غيرته على أمته وثقافته الإسلاميتين، ولكن هذا الطرح يحمل من المشاكل أكثر مما يقدم حلولا؛ إنه ابستمولوجيا، يفصل بين اللغة والفكر، ومعلوم في المعرفة المعاصرة أن العلاقة بينهما عضوية، وأن كل طرف منهما يُحدِّدُ ويتحدَّد بالآخر، فهُمَا وجهان لعملة واحدة؛ ثم إن ذاك الطرح يثير إشكالا تيولوجيا في التمييز بين القرآن الكريم والحديث القدسي والحديث النبوي؛ كما أن هذا الطرح لا ينتبه إلى أن الثقافة السائدة في شبه الجزيرة العربية خلال القرن السابع للميلاد وجدت عنتا في استيعاب الرؤية الكلية القرآنية كما يظهر في اتهام الرسول مثلا بالجنون والسحر والشعر والكهانة…وحيرة قومه في تصنيف القرآن، مما يلغي التطابق التام والمطلق بين كلام القرآن والثقافة التي نزل فيها؛ أضف إلى ذلك أن طرح عبد اللطيف العروي يلغي من اعتباره “المستوى الشعائري والغيبي”، و”المستوى القيمي الأخلاقي” في النص القرآني، وهما يحضران متواشجين مع “المستوى التشريعي التاريخي” الذي يسوغ به الأستاذ عبد اللطيف العروي أطروحته كما تدل على ذلك نماذجُه التحليلية؛ وأخيرا وليس آخرا، لا يأخذ في اعتباره التلقي التعبدي للنص، والخصوصية الروحانية للغة القرآنية باعتبارها لغةً متعالية داخل اللغة العربية التاريخية، كما شرحنا ذلك بتفصيل في كتابنا “الأنوار لا تتزاحم…”، وللإشارة فإن الأستاذ عبد الله العروي ظل مستحضرا لكل هذه المستويات في نظره التاريخي للقرآن الكريم، وإن بمعجمه وأسلوب تحليله المخصوصين، مما يسوغ ما ذهبنا إليه في مقال سابق من كون صاحب “السنة والإصلاح” لم يكن تاريخويا في تعامله مع القرآن الكريم، بل ينظر إليه، كما نفهم من لمحاته، من خلال ما نسميه ب”جدلية التعالي والتاريخ في النص”، والتي نعتبرها المدخل الأوفق لفهم تواشج المستويات القرآنية الثلاثة في النص القرآني، دون الوقوع في آفة “المقاربة الحرفية المتطرفة” أو آفة “المقاربة التاريخية المتطرفة” للنص القرآني.