
قفطان المرأة الآسفية عنوان هويتها
إعداد : منير البصكري الفيلالي / أسفي
يعلل الأنثروبولوجيون ظاهرة استعمال الإنسان للألبسة بأنها ناتجة عن حاجته للوقاية من الطبيعة ولستر العورة، كما أنها ناتجة عن شعوره بالحشمة والوقار. وهذا التفسير ينسجم كثيرا مع التبرير الديني لظاهرة ارتداء الملابس. ودراسة الألبسة أو الأزياء هي من الصعوبة بمكان، وذلك لانحسار الأزياء في ظل الأسلوب الشائع اليوم المتطور، خلافا للأزياء التقليدية القديمة التي ظلت محافظة على بعض الخطوط التقليدية في الشكل . ومن ذلك القفطان المغربي .. فهو من الألبسة التي تشتهر بها المرأة المغربية عموما، والآسفية على وجه الخصوص .
فحين ترتديه، إلى جانب ما تتحلى به من حلي في حدود موقعها الاجتماعي، تبدو وكأنها متربعة على كرسي الإمارة، حيث تنقلنا بقفطانها المزخرف إلى مشاهد الترف والبذخ .. قفطان يحتوي على تطريزات منمقة، من قبيل خيوط الحرير، والخيوط الذهبية والفضية، بما يزيد صاحبة القفطان رونقا وبريقا وبهاء. وغالبا ما نجد للمرأة في أسفي وحتى في غيرها من المدن المغربية، اختيار التطريزات المناسبة التي تتناسب مع شكلها الخارجي. والمعروف أن بعض أنواع التطريزات تحمل رموزا مرتبطة بالأرض والبيئة والزمان، ولها دلالات. فكما في الطبيعة مناظر وتعاريج، فكذلك في التطريزات التي يزين بها القفطان .. أيضا، نلاحظ أن بعض التطريزات تحمل أشكال بعض الورود وبعض أوراق الشجر، وهذا ينم عن ارتباط بالبيئة وبالذوق الفني الشاعري لا ننسى أيضا أن بعض الرسومات والزخارف المنقوشة تعبر عن وعي ثقافي وحس فني. ولعل المرأة في أسفي أثبتت باختياراتها الثوب ونوع التطريز، أنها مرهفة الإحساس قادرة على اكتشاف ذاتها ومحيطها، وعلى خلق نماذج لها علاقة بتطورها الحضاري الإنساني. ومن هذه الزاوية، ننظر إلى القفطان الأسفي الذي لا ينفصل عن محيطه وعن ثقافته المتوارثة. فهو تعبير عن الارتباط بالبيئة والثقافة والهوية.
ولدراسة هذا القفطان والوقوف عند الخصوصيات التي تميزه عن غيره، لا بد من معرفة الحيز المكاني الذي دفع المرأة الآسفية إلى اختيار رسومات وتطريزات معينة دون غيرها فحاولت أن يكون الثوب مناسبا مع جسدها دون زيادة، مع أنها تترك ساقيها ظاهرتين.
وإذا كانت هذه المرأة لا تعرف أحيانا مدلولات تطريز قفطانها، فإننا يمكن أن ندرك أن ما من حركة أو رسم أو نقش حتى وإن كان عفويا أو خياليا، مقلدا أو مبتكرا، فهو خارج المكان والزمان .. لهذا، فهو تعبير حي عن واقع قائم، مرتبط بالثقافة المحلية. ومن ثمة، فالمرأة في أسفي ترتدي أنواعا من القفطان .. فهناك ما يسمى بالقفطان ديال الصدر، يكون ذا لون حجري، مطرز بتسفيفة الصقلي حتى الأسفل. ثم هناك قفطان البهجة تكون أرضيته بالصقلي، مورد بالألوان، إضافة إلى القفطان المطروز أي يكون مطروزا من الفوق إلى الأسفل وداير على الجلال (الأكمام) يكون بالصم الحر (الصقلي)
وهناك قفطان الخنجر، فمن جهة الجيوب، توجد هناك ما يسمى بربعة وضفيرة (هي الضفرة) أي أربعة تراسيم وضفيرة الوسط مخدومة باليد (غليظة) وتنزل بما يقرب من سبعة سنتيمات وتدور كالخنجر. وهناك نوع آخر هو قفطان الملف الحر (يجياب) بالجيوب ومطرز بالطرز الرباطي.
ويزداد القفطان بهاء أكثر بمناسبة الأعراس التقليدية. فلا يخفى على أحد أن طابع الأصالة يكاد يطغى على أعراس العائلات الاسفية العريقة. من ذلك زي العروسة، وهو قفطان أحمر مزين بشرائط من الصقلي الحر، غالبا ما يكون من ثوب يسمى “الموبر” يغطي الصدر، وهو ما يسمى بقفطان الصدر.
وهكذا ، كانت المرأة الآسفية تتزين بقفطان من صميم بيئتها المحلية ، وتحليه بفتحة أزرار ذهبية تنتشر على الصدر وفي شريط العضد والأكمام الواسعة ، كما تحليه بنقوش وزخارف جميلة .. ومن ثمة ، يظهر بجلاء إتقانها في خياطة قفطانها وتطريزه ، حتى يخيل لنا أن القماش المستعمل هو نوع من الحرير ، تشد وسطه بنطاق كالحزام ، مطرز بالذهب والأحجار الكريمة ، وأحيانا تضع على رأسها غطاء مزخرفا شفافا يبدو تحته شعرها وقد تدلى على كتفها . وهنا لا بد ان نشير إلى مهارة النساء اليهوديات في أسفي في مجال خياطة القفطان في وقت ندر فيه وجود الأثواب ، وكان البعض يأتي به من فاس كثوب الموبرة مثلا قبل ظهور ثوب الموسلين والدنتيل . ولعل أشهر عائلة يهودية معروفة بمهارتها في الخياطة في أسفي ، هي عائلة واكنين ، وإلى حد اليوم ، ما يزال أحد أبنائها ” ألبير ” يشتغل بالخياطة في الدارالبيضاء .
وإذ ننسى ، لا ننسى ما تتميز به الخياطة الآسفية من أصالة عريقة تمزج بين أصالة الإتقان وخيوط الصقلي المفعمة باللمعان .. الأمر الذي يجلب الاهتمام ويلفت الأنظار ويرمز إلى الخصوصية الثقافية للساكنة المحلية ، مما يعطي للقفطان الآسفي نوعا آخر من الجمال والبهاء والتفرد .. إذ ظل صامدا في وجه العديد من موجات الغيير ، حيث بقي أصيلا وأكثر جمالا وحيوية وتعبيرا عن ثقافة جمالية رفيعة المستوى ، مما يدل على أن عادات وتقاليد مدينة أسفي كانت وما تزال راسخة تستمد حضورها وقوتها من تاريخ وثقافة المدينة التي تنتمي إليها .. تمثل هويتها ومظهرها الحضاري . وبذلك ، يكون قفطان المرأة الآسفية ركيزة أساسية من ركائز الهوية الثقافية ، تعبر من خلالها عن تشبثها بأصالتها ، كمكون أساسي من مكونات الهوية الآسفية الذي يجب العناية به والمحافظة عليه . ”
هناك إذن حاجة ملحة إلى توثيق هذا الزي التراثي ( القفطان ) للحفاظ على هوية قفطان المرأة الآسفية في ظل المتغيرات وطغيان العولمة ، وذلك بهدف الرفع من الوعي بتراثنا وحفظ ذاكرتنا . ولن يتم ذلك إلا من خلال إقامة قاعدة بيانات ممثلة فيما يسمى : ” أطلس الأزياء التراثية بأسفي ” الذي يمكن أن يعنى بجمع وتصنيف وأرشفة مختلف الأزياء التراثية التي حفلت بها مدينة أسفي على مر العصور . فلدينا في هذه المدينة ما يستطيع أن يعبر عن ساكنتها ، وذلك باستلهام الروح الفنية واستيعاب أهم ما يشكل هويتها وانتماءها لهذا الوطن . وعمل كهذا ، يستدعي تضافر الجهود ، إذ لا يستطيع أن يقوم به فرد واحد أيا كانت قدراته ، بل يحتاج إلى رؤية جماعية منضبطة .. ولعل تنظيم مثل هذا الملتقى الدولي التراثي مناسبة جميلة للاطلاع على الأزياء التراثية ، وهي فرصة ايضا لانتشال الزي التراثي مما يتعرض له حاليا من إهمال وتهميش وتشويه كأحد رموز الثقافة الشعبية المتشبعة بأصالتها وعراقتها . ومع ذلك ، يبقى القفطان الآسفي مفخرة النساء من جميع الطبقات .