ثقافة

“إمارة المومنين” عنوانُ دولةٍ مدنية ذات مرجعية إسلامية- الجزء الأول

 محمد التهامي الحراق

 

إسهامًا منا في تجاوزِ بعضِ ألوانِ سوء فهم التي ترفُدُ سؤالا ملتبِسًا مثل التساؤل الرائج في نقاشاتنا المغربية اليوم: هل مغربُإمارة المومنيندولةعَلمانية؟؟؟؛ ووعيا منا بالالتباس الذي يُحِيط بكل أبعاد هذا التساؤل الظاهرةِ والضامِرةِ؛ نرى لزاما تقديمَ بعض الإيضاحات حول ثابتإمارة المومنينفي الثوابت الدينية المغربية؛ وإضاءةَ الأفق الاستثنائي الذي تفتحهُ هذه المؤسسة لتجاوز آفاتِ الدولة اللائكية والدولة الدينية على السواء.

حين نتحدث عن الثوابت الدينية في المغرب فإننا لا نتحدث عن عناصر واختيارات تناهض التطور والتغير، بل عن مقومات هي التي تتيح لهذا التطور أن يكون في خدمة المجتمع وتماسكه وانسجامه ووحدته. فالثابت، حسب المفكر المسلم الشيخ عبد الواحد يحيى (رونيه غينو): “ليس هو ما يناهض التغيير، بل ما يعلو على التغيير، ومن ثم، فالثوابت لا تعني رفض التعدد أو الاختلاف كما قد يتوهم البعض، بل هي التي تمثل المشْتَرَك الذي يتيح للتعدد أن يكون غنًى لا تمزيقا، وللاختلاف أن يكون رحمةً لا فُرقة وتشتيتا؛ إذ لا بد من مشْتَرك متَّفَقٍ عليه يشكل الأرضية التي تجعل من التعددَ الذي يقطنها غنى وثراء، ومن الاختلاف الذي تُوَجِّههُ رحمةً واختلافا منتِجا وإيجابيا. وكثيرة هي السياقات التاريخية التي عرفت ذنيك التعدد والاختلاف محرومًا من الأرضية المشترَكة ومن الحواضن الثابتة، فكان أن صار التعددُ فيها مصدرَ فتنة، والاختلافُ فيها سبب تنابذ باسم الكتاب والسنة وعمل السلف الصالح. فيما يتيح التمييز بين المشترَك الثابت ومدارات الاختلافِ المشروع، إدراكَ سر انتشارِ الإسلام وامتداده في الزمان والمكان؛ إذ هو واحدٌ في متعالياته العَقَدية والتعبدية والأخلاقية والتشريعية، متعددٌ في تنزيلاتِه التي ما فتئت تراعي مقتضياتِ أحوال الزمان والمكان والإنسان في السياقات التاريخية والجغرافية والثقافية والحضارية المختلفة. وهذا من عظمة الإسلام الحنيف التي أتاحت له أن يكون رسالةً عالمية تتبناها شعوب وقبائل ومجتمعات وثقافات مختلفة الأعراف والأعراق واللغات والذاكرات والأحوال التاريخية، لكنها وجدت في رحموتية آفاق تنزيلِه ورحابتها ما يتيحُ لها أن تنتمي إلى الإسلام الكوني من داخل ثقافاتها المخصوصة. وهذا واحدٌ من مقومات خلود هذا الدين إلى يوم الدين، وامتدادِه في الأزمنة والأمكنة المختلفة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

ويشكل ثابتُ إمارة المومنين، على هذا المستوى، الإطارَ الناظم الذي يحافظ على ذلك المشتَرَك التديني بين أهل المغرب، بما هو شرطُ كلِّ وحدة، وصمّام أمان من كل فُرقة مذهبية أو تمزّقٍ للأمة، أو تطييفٍ لها باسم الحقيقة الدينية الواحدة والكتاب الإلهي الواحد والنبي الخاتِم الواحِد. وهنا، لا بد من الـتأكيد أن مؤسسة إمارة المومنين هي تعاقدٌ بين المأمومين والإمام، أي بين الأمةِ المبايِعَة والإمامِ المبايَع، له حقوق وعليه واجبات كما هو شأن نفسه بالنسبة للأمة، مما يعني نأيَ هذه المؤسسة عن كلِّ فهم تيوقراطي يقارنها بحكام القرون الوسطى ممن كانوا يحكمون في السياق المسيحي باسم الحق الإلهي. فنحن هنا أمام عقد بيعة له مقومات التعاقد الاجتماعي، المبني على الشرعيتين الروحية والاجتماعية، وليس مبنيا على التسلط والقهر بانتحال حق إلهي كان الإكليروس يذودون عنه ضمن تحالف الاستبداد والسلطة الكنسية في أوروبا العصر الوسيط. وهذا ما يجعل من النموذج المغربي لإمارة المومنين نموذجًا متفردا يقوم على التعاقد الاجتماعي الذي يمثله عقد البيعة، وانطلاقا من شرعية دينية وحضارية وتاريخية تضمن للأمة وحدتها المذهبية، وشخصيتَها الحضارية، واستقلاليتها التاريخية. وهو نموذج أيضا قابل للاستلهام المعاصر للخروج من حَدِّيَّة  وإميَّةِ الدولة الدينية أو الدولة اللائكية. إن إمارة المومنين تنقذنا من هذه الإمِّيَّة؛ بحيث يشكل فيها الدينُ مصدرا أخلاقيا وروحيا وحضاريا لتفعيل الحركة التاريخية للأمة، بعيدا عن التطرف في إقصاء الدين من المجال العام كما هو حال الدولة اللائكية، وبعيدا عن تطرف الحُكم باسم الحق الإلهي وإضفاء القداسة المتعالية على نظامٍ اجتهادي قائم على التعاقد الاجتماعي، فذلك تطرف آخر يشكل مطبَّ الدولة الدينية من جهة ثانية. وبهذا تقوم مؤسسة إمارة المومنين بتثمير حضور الدين في المجتمع والسياسة دون أن يكون لا ملغيا ومقصيا، ولا حاضرا بشكل يعلل التسلط والاستبداد كما حصل في أوروبا الوسيطية.

وطلبا لبيان هذا الأمر، ننطلق من النظر دستور 2011، ومن بعض خطابات هذه المؤسسة الدالة في هذا السياق.

يتبع..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اثنان × اثنان =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض