ثقافة

من أجل حفظ الذاكرة الوطنية بأسفي

      إعداد : الدكتور منير البصكري الفيلالي / أسفي


يقول تعالى في محكم كتابه : “ وبعهد الله أوفوا ، ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرونوكما لا يخفى علينا فالوفاء بالعهد خلق نبيل وسلوك حضاري متميز .. واليوم يعيش المغرب ذكرى عظيمة أبلى فيها المغاربة البلاء الحسن ، فأبانوا عن شجاعة قل نظيرها ، ورباطة جأش نادرة وتلاحم فريد وصمود قوي واستماتة في أداء الواجب الوطني . فهي حدث تاريخي بامتياز ، تجسد نبل وسمو الوعي الوطني وقوة التحام العرش بالشعب ، كما تعبر عن تعلق المغاربة قاطبة بهذا الوطن والدفاع عن مقدساتهم ليبقى هذا الوطن قويا شامخا محافظا على حريته واستقلاله وسيادته .
   
ومدينة أسفي من المدن المغربية التي كان لها السبق في خوض معركة تحقيق الاستقلال ، مناهضة للنظام الاستعماري الذي جثم على التراب الوطني .فكان أن قدمت ثلاثة من أبنائها للتوقيع على وثيقة الاستقلال وتقديمها للسلطات الاستعمارية حيث تضمنت جملة من المطالب السياسية ، فشكلت بذلك ثورة وطنية كما عكست  وعي المغاربة ونضجهم وقدرتهم على الدفاع عن حقوقهم المشروعة .
 
وحتى لا ننساهم ونحن نحتفل بالذكرى الواحدة والثمانين لتقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال يوم 11 يناير 1944 ، نستحضر في هذه المناسبة الغالية ثلاثة من أبناء مدينة أسفي ممن كان لهم شرف التوقيع على هذه الوثيقة ، وهم الفقيه السي عبد السلام المستاري والعالم الأديب السي محمد البوعمراني والأستاذ الجليل السي امحمد بلخضير رحمهم الله جميعا .
   
فالسي عبد السلام المستاري وطني كبير، نذر حياته من أجل تقديم كل ما لديه لتكون راية الوطن عالية.. عرف عند الناسكفقيه وشيخ سلفي متمكن، وكمدرس ومربي نبيه، وعدل وتاجر وقاضي عادل وشاعر صوفيولد بأسفي عام 1900، وبعد حفظه للقرآن الكريم وتلقيه لبعض علوم الدين على يد نخبة من علماء مدينة أسفي من أمثال: العلامة عبد الرحمن المطاعي والعلامة محمد مولاي الحاج وغيرهما.. شد الرحال كباقي طلبة أسفي في تلك العهود إلى مدينة فاس ليلتحق بجامعة القرويين حيث تخرج منها بعد حصوله على شهادة العالمية . إضافة إلى نشاطه العلمي وإشعاعه الثقافي، انخرط الفقيه مبكرا في العمل الوطني، فكان عضوا نشيطا في الجناح السري للحزب الوطني المعروف باسمالطايفة، فشارك بقوة في مجموعة من التظاهرات احتجاجا على الظهير البربري الصادر في 16 مايو 1930.. مما حد بالمحتل الفرنسي إلى وضعه تحت المراقبة الدائمة، بل ومنعه من مزاولة عمله.. ليتم اعتقاله إثر نفي السلطان محمد الخامس بعد أن لفقت له تهمة تدبير محاولة اغتيال بمراكش. وعلى الرغم من محاولة الاستعمار الوقوف في وجه الفقيه المستاري، فإن الرجل لم تزده المضايقات إلا استمرارا متواصلا للنضال خدمة لهذا الوطن، مما جعله يحتل مكانة طيبة، وشعبية كبيرة، وسمعة جيدة لدى ساكنة مدينة أسفي . و هذا التقدير يدل على مدى تقديرهم لصدق وطنية هذا الرجل، علما بأن أسفي لعبت دورا كبيرا في مجال العمل الوطني إذ حضرت بقوة في كل الوقفات النضالية التي عرفها المغرب إبان الاستعمار الفرنسي، بمناصرتها للوطنيين والتجاوب معهم. فهي مدينة بارزة في الجهاد الوطني ضد المستعمر الذي اغتصب الأرض وقهر الشعب، مقابل خدمة مصالحه الضيقة .
وثاني هذه الشخصيات التي وقعت على وثيقة المطالبة بالاستقلال ، نذكر  الفقيه محمد بن الطيب البوعمرانيولد بأسفي عام 1906 في بيت من بيوتات هذه المدينة العريقة، وبين أحضان مساجدها ومدارسها العتيقة ..تلقى مختلف العلوم الدينية على يد فقهائها من أمثال: الفقيه الأديب محمد التريكي، والفقيه محمد مولاي الحاج، والفقيه عبد الرحمان المطاعي، والفقيه علال بن حمو وغيرهمإلى أن رحل إلى فاس حيث القرويين وفيها حصل على الإجازة . كانت له مكتبة تحتوي على كتب قيمة في مختلف المعارف، جعل منها صاحبها صالونا أدبيا يجتمع فيه رواد الحركة الوطنية وفقهاء المدينة وطلاب العلم. توثقت علاقته بالفقيه عبد السلام المستاري والفقيه محمد الهسكوري، وكلهم كانوا من رواد الحركة الوطنية بأسفي، كما كان لهم من بعد النظر على الصعيدين المحلي (أسفي) والوطني .
أحب مدينة أسفي وتفانى في خدمتها بما قدمه من تضحيات جسام يشهد له بها الكثير من أهل أسفي، فكان قدوة في دماثة الأخلاق والوطنية الصادقة، والالتزام الحق، فتعددت نشاطاته ومكرماته وملاحمه الوطنية.
شارك في تأسيس الحزب الوطني
ساهم في تأسيس حزب الاستقلال
ساهم في تهييئ وثيقة المطالبة بالاستقلال .. كما شارك في غير قليل من الاتصالات مع عدد من الزعماء في مختلف الأقطار العربية وخاصة منها بلدان المغرب العربي ، دفاعا عن عزة واستقلال المغرب . وعلى الرغم من الأحكام التي صدرت في حقه إبان الاستعمار، والمنفى الذي تجرعه، ظل الرجل ثابتا لا يتزحزح عن تقديم أهم الخدمات والتضحيات لوطنه، فأين نحن اليوم من أمثاله هذا الرجل من رجالات مدينة أسفي الذين تركوا بصماتهم قوية طيلة مسيرة حياتهم حتى يبقى الوطن مرفوع الرأس.
 
وثالث شخصية من مدينة أسفي التي كافحت وناضلت من أجل أن يعيش الوطن كريما حرا ، هو السي امحمد بلخضير ، واحد من  رجالات الوطنية الحقة بأسفي ، هادئ صموت أكثر ما يكون الصمت حسب قول الأستاذ الوطني الكبير أبو بكر القادري رحمه الله . ولد السي امحمد بلخضير بمدينة أسفي سنة 1918 في أسرة عرفت بالعطاء والمناعة. التحق كباقي أقرانه بمدرسة مولاي يوسف بأسفي ، ثم  انتقل بعدها  إلى الرباط قصد متابعة دراسته في كوليج مولاي يوسف أحرز من بين القليلين في ذلك الوقت على شهادة الباكالوريا، مما سمح له بمتابعة دراسته بفرع الجامعة الجزائرية بالرباط، وفيها نال الإجازة في مادة الرياضيات. ويظهر أن السيد بلخضير، كان ناجحا في دراسته فهو من النوابغ المحدودين في ذلك الإبان، خاصة وأن فرنسا كانت بالمرصاد لكل من أراد الاستمرار ومواصلة الدراسة، إذ كانت تسعى إلى أن يبقى المستوى الدراسي للمغاربة محدودا.. لكن بلخضير وأمثاله لم يثنهم ذلك على تحقيق ما كانوا يسعون إليه، خاصة وأن المغرب في أمس الحاجة إلى أطر مغربية حقيقية قادرة على انتشاله من وهدة السقوط فيما كانت تدبر له السلطات الاستعمارية. ولا ننسى أن السيد امحمد بلخضير كان من الرعيل الأول من الشباب الذين ولجوا ميدان التدريس ومقاومة المستعمر، فأبانوا عن البلاء الحسن.. فجمع بين عملين جليلين، واستعداد للمزيد من البذل والتضحية . كان الرجل نشيطا لا يعرف للراحة طعما ، دائم الاتصال بأقطاب الوطنية وعلماء السلفية، من ذلك أنه كان وثيق الصلة بالعلامة الفقيه محمد غازي الذي حل بأسفي سنة 1935 ليشتغل وكيلا شرعيالقد أفادت مدينة أسفي كثيرا من الأستاذ امحمد بلخضير، كما أفاد منها هو كذلك . قال عنه الأستاذ أبو بكر القادري: ” كان السي امحمد بلخضير لا يباهي ولا يفاخر بوطنيته، فهو وطني ويقدر تمام التقدير رجال الحركة الوطنية الأولين. ويقول السي بلخضير عن مدينته : ” إن مدينة أسفي وأهلها، عشاق للحرية متفانون في الدفاع عنها، وطنيون ملتفون على عرشهم العلوي المجيد، وبذلك كانت هذه المدينة قلعة منيعة منذ بدايات التغلغل الأجنبي، حيث عرفت أشكالا عدة من المواجهات والصراعات من أجل طرد المستعمر…” ويبدو من خلال هذا الكلام أن مدينة أسفي شكلت أول مدرسة في الوطنية الصادقة التي تشبع بها الأستاذ بلخضير ومنها انطلق كالطود مدافعا عن كرامة الوطن إلى جانب ثلة من الوطنيين الغيورين  على هذا البلد الأمين. لقد تعددت نشاطاته، وتميزت أعماله.. مما كان له أكبر الصدى في المدينة التي ما تزال تذكره بكل خير، بعد أن أبلى البلاء الحسن في رسم صورة حية للأجيال اللاحقة من شبابنا الذي يغمرهم الطموح الوطني الصادق، للاستمرار في مسيرة البناء والمكاسب والانتصارات التي أحرز عليها المغرب من زوايا الفكر والثقافة والعلم تحت القيادة الرشيدة والمتبصرة لجلالة الملك محمد السادس حفظه الله .
 
تلكم كانت وقفة لذكرى رجال وطنيين صادقين أنجبتهم مدينة أسفي ، جسدوا معنى الحرية والاستقلال في أبهى صوره وشكلوا محطة رئيسية في تاريخ الكفاح الوطني الذي خاضه العرش والشعب من أجل تحقيق السيادة الوطنية والوحدة الترابية ، تعزيزا لقيم الولاء لهذا الوطن وتعبيرا عن التشبث بالثوابت المغربية ، وانخراطا في مشروع تعزيز بناء الدولة الاجتماعية كما أراد وخطط لها عاهل البلاد حفظه الله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

12 + 13 =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض