
في مبادرة استثنائية: العلماء يستدعون الخبراء
الدكتور محمد التهامي الحراق
لقاء استثنائي بامتياز، وحدث غير مسبوق ذاك الذي عرفه مقر المجلس العلمي الأعلى بالرباط يوم الأحد 9 فبراير 2025م، حيث ضمت قبة القاعة الكبرى البديعة للمجلس، أطيافا وحساسيات وجهات وممثلي مختلف القطاعات الرئيسة في التدبير والتنمية في المغرب. يتعلق الأمر ب “لقاء تواصلي بين المجلس العلمي الأعلى وخبراء في التنمية”، دعا فيه المجلس أعلاما وممثلين عن مجالات الفلسفة والأمن والاقتصاد والبيئة والقضاء والمجلس الأعلى للحسابات وحقوق الإنسان والأسرة والصحة الجسدية والصحة النفسية؛ وحضره خبراء في الثقافة والتنمية والتدبير والإعلام والمجتمع المدني. إنه لقاء توارى فيه علماء المجلس العلمي الأعلى، بتواضع الكبار، إلى الكراسي الخلفية للاستماع والإفادة والتفكر؛ بعد أن شرح الكاتب العام للمجلس، د.سعيد شبار في كلمته الافتتاحية أرضيةَ اللقاء وخلفيته، والتي تندرج ضمن مسار “خطة تسديد التبليغ”، بما هي مظهر من مظاهر طفرة العلماء ومبادرتهم لتثمير الإيمان في العمل الصالح، وسعيهم لنشر قيم الحياة الطيبة، والإسهام في تخفيض كلفة المجتمع في مختلف القضايا والمشاكل عن طريق تخصيب وتقوية العلاقة التكاملية بين “وازع السلطان ووازع القرآن”. لقد جاء هذا اللقاء ليجسد انفتاح العلماء على مختلف خبراء التنمية الفاعلين في الحياة والمجتمع على المستويات المعرفية والأمنية والاجتماعية والاقتصادية والمدنية والثقافية. وهذه إشارات أولية عنت لنا من حضور هذا اللقاء الغني، ومتابعة أشغاله التي امتدّت على مدى أكثر من ست ساعات:
– إن المتأمل في أهمية الفعاليات المستدعاة للقاء من مختلف الاتجاهات والحساسيات والتخصصات والمجالات، ليقف بحق عند ذاك الأفق الرحب الذي يتسم به العلماء وهم يرومون الإصغاء إلى مختلف الخبرات، والإفادة من مختلف الكفاءات والتعرف على خبايا المعطيات، من أجل رصد طبيعة تدخلهم، ونطاقاتها، وأشكالها؛ وكذا طبيعة الرهانات المطروحة على مختلف المستويات لأخذها بعين الاعتبار في “خطتهم لتسديد التبليغ “؛ بل إن هذا الانفتاح والإصغاء هما مظهران من مظاهر هذا التسديد، حتى لا يبقى الخطاب التبليغي خطابا عاما ينشد المثال والكمال، دون اعتبار التحولات والخصاصات والاحتياجات العميقة التي يعرفها المجتمع، وتتطلب تدخل العلماء والوعاظ والمرشدين والأئمة انطلاقا من معارفهم الدينية ومهاراتهم التواصلية واهتماماتهم الاجتماعية ومكانتهم الرمزية والروحية في المجتمع.
– لقد كان دالا، كما أكد ذلك وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية د. أحمد التوفيق وهو ينسق بألق وحذق تدخلات الخبراء والوزراء، أن يتم افتتاح التدخلات بمداخلة للفيلسوف علي بنمخلوف حول “البواعث الإيمانيّة” في الأفراد والجماعات من منظور فلسفي؛ ذلك أن في الأمر إشارة إلى أن علماء المغرب هم حفدة الفيلسوف والفقيه أبي الوليد ابن رشد رائد الاتصال بين الحكمة والشريعة، ورمز الموافقة والمؤالفة بينهما؛ إذ الحكمة صاحبة الشريعة وأختها الرضيعة كما كان يقول. وهو ما أثبتته مداخلة بنمخلوف وهو يؤصّل فلسفيا لكثير من قيم الاختيار والإرادة وتطويق نزوعات الأنا…؛ وغيرها من رهانات الإنسان هنا والآن، والتي يشتغل عليها في ضوء المرجعية الوحيانية والميراث المعرفي والروحي والأخلاقي الإسلامي علماء المجلس.
– وقف العلماء من خلال مختلف المداخلات، التي شملت مجالات الأمن والاقتصاد والبيئة والقضاء والأسرة وحقوق الإنسان والصحة الجسدية والنفسية..، عند معطيات نفيسة وإحصاءات دالة وإشكالات مخصوصة، أبرزت الأهمية القصوى لما يؤمن به العلماء من ضرورة الإصغاء إلى الخبراء والمتخصصين قبل أي تدخل علمائي أو اجتهاد فقهي أو خطاب إرشادي تبليغي في مجال من المجالات أو قطاع من القطاعات العلمية أو العملية. وهو ما كان يتم بشكل فردي سابقا، لكنه اليوم يتخذ في المغرب بعدا مؤسساتيا كما أشار إلى ذلك الأستاذ أحمد التوفيق. وتبين بوضوح وجلاء أن الإصغاء للخبراء يبدد كثيرا من ألوان سوء الفهم والإدراك لعدد من القضايا والإشكالات التي تحوم حولها الأخطاء والأغاليط والأحكام الجائرة من جراء التباس الحق بالباطل في الحديث العام عنها في الفضاء التواصلي العام؛ ولا سيما على مواقع التواصل الاجتماعي.
– لقد عبر العلماء عن وسع أفق رفيع وهم ينصتون بوقار واهتمام لمختلف التدخلات، بما فيها تلك التي تنطلق من مرجعيات ومفاهيم لهم عليها تحفظات ومعها تباينات، حيث عبروا، على هذا المستوى، عن تشبعهم بالقبول بالاختلاف والاستعداد للحوار في شتى القضايا والمسائل، بل ووعد السيد الوزير بعقد لقاءات حوارية وعلمية خاصة بين العلماء وبعض المؤسسات حول بعض القضايا مثل حقوق الإنسان وقضايا المرأة والأسرة. وهنا، لابد أن نشيد بجميع التدخلات التي أبدت تقديرا خاصا لدعوة المجلس العلمي الأعلى، واحتراما كبيرا لمبادرته المشهودة، ولعمله النفيس في ظل مؤسسة إمارة المومنين، مبرزةً القيمة القصوى لتدخل العلماء في معالجة مختلف المشاكل وتخفيض كلفتها المالية والاجتماعية والأمنية على حد سواء.
– في ختام اللقاء، وُزعت وثائق مهمة على الحاضرين، تعرف بأسس “خطة تسديد التبليغ” ومرجعيتها ورهاناتها وآفاقها، وفي ذلك دعوة رمزية لمواصلة الإصغاء المتبادل، ومتابعة الحوار مع مختلف القطاعات والجهات والمؤسسات، لبلوغ مقصد ترشيد التبليغ، وتثميره في الحياة والمجتمع.