
صورة عميد الأدب المغربي الدكتور عباس الجراري في أعين شعراء الملحون- الحلقة الثامنة عشرة
إعداد : الدكتور منير البصكري الفيلالي / أسفي
بمناسبة الإطلالة البهية لشهر رمضان الكريم لعام 1446 الموافق لعام 2025 أهدي هذه السلسلة من الحلقات الرمضانية إلى روح عميد الأدب المغربي أستاذي الدكتور عباس الجراري أكرم الله مثواه بعنوان : ” الدكتور عباس الجراري على ألسنة شعراء الملحون “. فاللهم ارحمه واعف عنه يا كريم واكتبه عندك من المحسنين وارزقه الجنة دون حساب ، وتظله تحت عرشك يوم لا ظل إلا ظلك .. اللهم بجاه بركة هذا الشهر الفضيل , ارحم أمواتا ينتظرون منا الدعاء ، واغفر لهم ونور قبورهم واجعلها بردا وسلاما برحمتك يا أرحم الراحمين .
إن كل عملية قراءة ، تهدف الوصول إلى سبر كنه النص ، وفك شفراته وفتح مغاليقه ، ونزع أستار الحجب عن المعنى ، ترتكز على منهج معين ، ترتاد به هذه المتون وتحاول مستعينة به ، تفكيك البنى اللغوية الكبرى ، والوصول إلى دلالات تقع في العمق من العملية الإبداعية ، ولا مناص لأي باحث من الاحتكام لآليات منهج معين ، بغية الوصول إلى كشف الحقيقة . وترتيبا على ذلك ، تأتي قراءة أستاذنا للملحون خالية من أي تمحل أو تعسف أو ابتسار .. قراءة تراعي خصوصيات النص الملحوني ومعينات القراءة . فهو إذن قارئ نموذجي ، له باع وموهبة ودربة ومراس .. ومن ثمة ، انبرى من خلال قراءته للملحون منقبا ومحللا ومفسرا لمختلف الظواهر التي شكلت العمود الفقري لقصيدة الملحون بهدف إعادة بعث الماضي في الحاضر ، وهي رؤية في البناء الحضاري المتكامل والمتناغم بمختلف مكوناته ، تشكل قاعدة أساسية لكل نهوض حضاري منشود للأمة . ذلك أن أشكال الوعي الحضارية المتكاملة التي واجه بها الدكتور عباس الجراري تحديات الأمة وإبراز خصوصية الرؤية ، والمقاربات التي واجه بها الاختلالات في الواقع الحضاري المأزوم ، والاستشرافات التي اختط بها طريق النهوض والريادة الحضارية للأمة ، قد كشفت آليات المقاربة القرائية عند الأستاذ عباس الجراري . ومن ثمة ، ركز على الشعر الملحون كتراث حي ومتحرك ومتجدد ، يؤكد أصالته في أشكاله وقوالبه التقليدية ، كما يؤكد معاصرته في الاستفادة من الأحداث والوقائع كعوامل مثيرة للإبداع والإنتاج . وهكذا ، كانت دعوة أستاذنا ـ رحمه الله ـ إلى تعميق البحث العلمي الجامعي في فن الملحون من أجل تجديده وتطويره . فالشعر الملحون ـ كما هو معلوم ـ معبر أمين عن الشخصية الوطنية والعبقرية الشعبية . وحين أدرك الناس قيمة هذا التراث الأدبي وفهموا عن وعي تام ما كان يرومه عميد الأدب المغربي وهو يتناول قصيدة الملحون ، بدأ اهتمامهم ينصب على هذا العمل الأدبي بحثا عن مقوماته الفنية واستقراء لمكنوناته الإبداعية وعما يختزنه من قيم ومثل نبيلة . لكنهم لم يدرسوا ويقرأوا الملحون على الطريقة المثلى ، إنما كانت جل الدراسات التي انبرت له تعتمد في جملة ما تعتمد على الملاحظة العابرة والتفسير اللغوي الذي يقف عند حدود الجملة الشعرية ، الأمر الذي حدا بأستاذنا إلى إعادة قراءة وتقديم هذا الموروث قراءة واعية هادفة إلى سبر أغواره وفك شفراته ، واستخراج مكنونه وإنطاقه بما سكتت عنه الدراسات السابقة عليه .. ذلك أن قراءته اتسمت بشيء غير يسير من العمق في التحليل ، وارتياد مناطق عصية في القصيدة الملحونية ، لم تحظ بالعناية من قبل ، قصد الوصول بها إلى مساحات رحبة من الدلالات والمعاني . وتبقى قراءة أستاذنا من أرقى القراءات وأكفئها ، وأولاها بالعناية والتمحيص والتوظيف للوصول إلى نتائج تكون قمينة بهذا الإنجاز الأدبي المغربي الجاد .
ولعل العمل الذي تنهض به أكاديمية المملكة المغربية في شأن الملحون وشعرائه واعتباره تراثا عالميا ، تتقاطع فيه مصالح الشعوب والأمم وأفكارهم ورؤاهم ومطامحهم ، بحيث يكون إحدى مرجعياتهم في كفاحهم من أجل حياة مشتركة قائمة على الاحترام والندية وإعادة بناء العالم بما يخدم المجتمع البشري . كل ذلك ، كان بإشراف وتأطير أستاذنا الدكتور عباس الجراري .