
نظراتٌ في الدعاءِ الناصِري….توصيف للضيق ورجاء في اللطف (10)
محمد التهامي الحراق
دعما للأفق الروحاني في لحظات الابتلاء، واستحضارا لطاقة الدعاء عند الشدائد والضراء؛ كما تؤصل له المرجعية الإيمانية الجامعة بين البذل والتوكل، بين الأخذ بالأسباب وملازمة الدعاء؛ ننشر ها هنا نظرات في متن الدعاء الناصري(نسبة إلى الصوفي الكبير محمد بناصر الدرعي دفين تمكروت عام 1085هـ). ويعد هذا الدعاءُ واحدا من أشهر الأراجيز التوسلية التي اعتاد أهل المغرب استعمالها في باب التضرع عند الشدائد والمحن.
* * *
نواصل رحلتنا مع “الدعاء الناصري”، باعتباره واحدا من أبرز كلام العارفين تداولا وإنشادا وحضورا في أذكار المغاربة وإنشاداتهم في المساجد والزوايا، وفي مختلف المناسبات الدينية العامة والخاصة. وقد وقفنا في الحلقات الماضية على العديد من المعاني النفيسة والقيم الروحية السامية التي يستحضرُها هذا الدعاء باعتباره نصا توسليا يقابل بين صفات الافتقار التي تميز العبودية، وبين صفاتِ الكمال التي تتحقق بها الربوبية.
على أن هذا المتن التضرعي والتوسلي ينتظم في مناجاة صادقة مع الحق سبحانه تُبْرز احتياجَ العبد وافتقارَه إلى مولاه، و تُظهِرُ إلحاحَه في الدعاء لرفع الهمّ ودفع الغمّ وتفريجِ الضيق، إذ هو دعاء صادر عن اضطرارٍ موجِب للاستجابة كما مر معنا، وهذا ما يوسِّعُ معناه الناظمُ بقوله:
ضاق النطاق يا سميع يا مجيبْ — عز الدواء يا سريع يا قريب
فعلى غرار الثنائية الشاملة التي أشرنا إليها سابقا، والتي تقابل بين أوصاف العبودية وأوصاف الربوبية، كما تقابلُ بين حالة الافتقار واحتياج الخلق وحالةِ غنى وكرم الحق، ها هو الناظم هنا يشير إلى حالة الافتقارِ بالضيق الذي لحق بالمتضرِّع فيقول “ضاق النطاق”، ثم يقابل هذه الحالة بكرم وإحسان وغنى الحق من خلال استحضار اسمين من أسماء الله الحسنى، فينادي “يا سميع يا مجيب”؛ الأول هو اسمه “السميع”. قال تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾، و قال النبي صلى الله عليه و سلم: “أَيُهَا الناسُ اربِِعُوا على أَنْفُسِكم ـ أي أشفقوا ـ إنكم ليس تدعونَ أصمَّ ولا غائباً، إنكم تدْعُونَ سميعاً قريباً”، والاسم الثاني هو اسمه تعالى “المجيب”، قال تعالى:﴿ فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ﴾، مما يعني أن شكوى ضيقِ النطاق لا محالةَ واجِدَةٌ ربا سميعا ومجيبا.
و نفس المقابلة نجدها في الشطر الثاني، حيث يشير الناظم إلى احتياج المتضرع وافتقاره لدواء دائه، أكان داءً حسيا يصيب الجسد أم داء معنويا يلحق القلب ويصيب بسوئه النفس، ثم يقابل ذلك بالنداءِ على ربه بقوله: “يا سريع يا قريب”. وهذا ما جعل النداء هنا استصرَاخاً بأسماء الله الحسنى، وجعَلَ حضورها ذا نفس تسبيحي يُقلِّب العبارة بين الذكر والدعاء.
يقول الناظم:
وقد مددنا ربنا الأكفا — ومنك ربنا رجونا اللطفا
رفعُ الكف واحد من علامات التبتل في الدعاء والإلحاح في الطلب والسؤال، بل من موجباتِ الاستجابة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “إن ربكم حيِيّ سِتّير يستحي من عبدِه إذا رفعَ يديه إليه أن يردَّهُما صِفْرا”. كما أن هذا الرفعَ إلى السماء إشارةٌ إلى التوجه بالكليةِ إلى الإله المتعالي عن الزمان والمكان والتحيز، فهو رمز إلى صدق التوجه وإخلاصِ القصد واستجماع الهمة واستفراغ النية في الطلب والدعاء. إنها حركةٌ استمداد من رب العباد، وهو ما يفيده أيضا تكرار لفظ “ربنا” في الصدر والعجز، والذي يرسخ أفق المناجاة الذي يَسْبَح في فلكه الدعاءُ الناصري. وهنا نلتقي مع “الرجاء”، بما هو مظهر رحموتيٌّ جمالي مقابلَ الخوف بما هو مظهر جبروتي جلالي، يقول الناظم:
فالطف بنا فيما به قَضيتَا — ورَضِّنا بما به ارتضيتا
إنه يسأل مولاه اللطف في القضاء من جهة، ويسأله الرضا بما ارتضاهُ للعبد من قدر من جهة ثانية. واللطف هنا هو رحمة نازلة تصحب القضاء فينزل المقضيُّ به بردا وسلاما لا يلحق صاحبَه ضُرٌّ ولا يَمَسُّه منه سوء. أما الرضا، فهي رحمة تنبجسُ في قلب المؤمن في صورة قبول بما جرت به المشيئة وارتضاه صاحب المشيئة.
وفي هذا البيت يُظهر الناظم، على غرار ما سبق، حرصاً على سلامة الاعتقاد مع لزوم رفيع للأدب مع الحق سبحانه، فهو يعلم أن خوارق الهمم لا تخرِق أسوارَ الأقدار، لذلك يطلبُ من الحق اللطف فيما جرت به المقادير؛ إذ هو اللطيف سبحانه، قال تعالى: ﴿اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ﴾، و قال أيضا: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير﴾. كما أن الناظم يدرك أن النفس الراضية مقامٌ لابد منه في أطوار الترقي كي تصيرَ مَرضية، و أن الرضا من العبدِ إنما هو أثر من رضا مولاه عنه، “رضي الله عنهم ورضوا عنه”، لذلك يطلب من الحق سبحانه إقدَاَره على الرضا بقضائه وبما ارتضته له مشيئتُه؛ لأن العبد عاجز عن التحقق بالرضا ما لم يفز بتوفيق مولاه ليقيمَه في هذا المقام، لذلك قال: “ورضِّنا بما به ارتضيتا”.
بهذا يكون المولى سبحانه هو القصد و الملجأ و الملاذ عند اشتداد الأهوال و استياء الأحوال، يقول الشيخ عبد القادر العلمي في “توسليته”:
يا الواجد بالصرخة عن ضيقة الحال — جل مولانا عن شبه الأمثال عالي
غيثني يتفاجى كربي نلوح الأهـــوال — خاطري يتهنى قلبي يعود ســالي.