تأملات

( وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً* إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا )‎

إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه صلاة تُعرًفٌنا بها إيًاه.
أما بعد، فيا أيها الإخوة والأخوات، ها نحن مرة أخرى نحاول بإذن الله تعالى أن نشارك معكم ما تيسر من تفسير الآية: 65 و 66 من سورة الفرقان، ألا وهي قوله تعالى:
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا(65)إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا( 66) ”
معاشر السادة والسيدات، إن الله سبحانه وتعالى يخبرنا في هاتين الآيتين الكريمتين بصفات عباد الرحمن، وبإيمانهم بأن في الليل منحة إلهية، ونفحة صمدانية، وحالة ربانية، يستجيب الله فيها للدعاء، فمن يقوم الليل، يؤثر حب الله عن حب النوم ولذته، وإن هذا من شأنه تحمل أعباء الدعوة، ومن شأنه ضبط النفس عند الغضب مع الآخرين، وتدبر القرآن في الليل له ثمار عظيمة، وفيه يدرك المؤمن مقاصد الإسلام العالية، فيعلم أن الإسلام يتصف بالعالمية، وأنه لابد أن يكون داعيا إلى الله إلى أن تقوم الساعة.
فهؤلاء عباد الرحمن يلجؤون إلى الله دائما في كل حوائجهم، ويستعيذون به من كل سوء وخوف، فيستغيثون به سبحانه أن يصرف عنهم عذاب جهنم، وذلك بأن يصلح أحوالهم في الدنيا، ويثبتهم على الحق حتى يحسن مصيرهم يوم القيامة فيجنبهم النار، ويدخلهم الجنة بسلام.
فمن صفاتهم أنهم يخافون من النار، يقول الحسن البصري رحمه الله: والله ما صدق عبد بالنار إلا ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وإن المنافق لو كانت النار خلف ظهره ما صدق بها حتى يتجهم في دركها. والله ما أنذر العباد بشيء أدهى منها. (فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّىٰ* لاَ يَصْلَـٰهَا إِلاَّ ٱلاْشْقَى * ٱلَّذِى كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ) [الليل:14-16].
إنها نار السعير، لا ينام هاربها، وجنة الفردوس لا ينام طالبها،
ولله ملائكة سائحون في الأرض يلتمسون أهل الذكر، فيجدونهم على حال من الخوف من النار، كما صح في الحديث، في سؤال الله للملائكة عن حالهم :
«فيقول لهم وهو أعلم بهم: مِمَّ يتعوذون؟ فيقولون: من النار. فيقول: وهل رأوها ؟ قالوا: لا. والله ما رأوها. فيقول: كيف لو رأوها؟ فيقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فرارًا وأشد منها مخافة؟ قال فيقول: إني أشهدكم أني قد غفرت لهم» [رواه البخاري] فكان سؤالهم لله أن يصرف عنهم عذاب جهنم.
ومن خصالهم الحميدة التي ذكرها الله في تلك السورة. انطلاقا من قوله تعالى:
{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرض هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجاهلون قَالُواْ سَلاَما إلى قوله تعالى: ( وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً* وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً* إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ). فهم يراوحون بين سجود في صلاتهم وقيام، يدعون الله أن يصرف عنهم عقابه وعذابه حذراً منه ووجلاً، إن عذاب جهنم كان غراماً، ملحاً دائماً لازماً غير مفارق من عُذّب به من الكفار، ومهلكاً له، إنها ساءت مستقراً ومقاماً، والمستقر القرار، وبالمقام الإقامة، والمعنى ساءت جهنم منزلاً ومقاماً. وقال الطاهر بن عاشور، دعاؤهم هذا أمارة على شدة مخافتهم الذنوب فهم يسعون في مرضاة ربهم لينجوا من العذاب، فالمراد بصرف العذاب، إنجاؤهم منه بتيسير العمل الصالح، واجتناب السيئات. وفي التفسير «الوسيط»، حكى سبحانه جانباً من دعائهم إياه، وخوفهم من عقابه، فقال والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم بأن تبعده عنا وتبعدنا عنه، إن عذابها كان لازماً دائماً غير مفارق منه. هذه الدعوة المباركة ضمن دعوات وخصال لعباد الله، يقولون ربنا نجنا من عذاب النار، ومن أسبابه في الدنيا، بتيسير الأعمال الصالحة، واجتناب السيئات المقتضية لها، وفيه إشارة لما ينبغي عليه المؤمن من الخوف من العذاب، مع الرجاء، فيجمع بين الترغيب والترهيب كالجناحين للطائر، وأن العبد ينبغي له أن لا يغتر بعمله مهما كان صالحاً، فهم مع كل هذه الصفات الجليلة يخافون من عذابه، ويبتهلون إليه لكي يصرفه عنهم، غير مغترّين بأعمالهم، وهذا من حسن العبادة، وكمالها. ثم ذكروا علة هذا السؤال، أن عذابها كان شراً دائماً، وهلاكاً غير مفارق لمن عُذّب به، فغراماً ملازماً دائماً بمنزلة الغريم لغريمه، كملازمة الدائن للمديون من حيث لا يفارقه بإلحاحه ومطالبته، وقالوا على وجه التضرع والخوف:
(إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً)، أي بئس المنزل منظراً، وبئس المقيم مقاما، وكأنهم على كمال صفاتهم غارقون في المعاصي والآثام، ولا يخفى أهمية الاستعاذة من النار، حيث صدَّروا استعاذتهم بها، لأنها أشد شراً توعد الله به، وفي هذه الدعوات بيان أن الداعي يحسن له أن يذكر سبب ما يدعوه. وأهمية هذا الدعاء أن الله ذكره لناس أثنى عليهم، وأضافهم إلى نفسه في كتاب يُتلى إلى يوم القيامة، وجاء بصيغة الفعل المضارع، الذي يدل على كثرة سؤالهم به، ومداومتهم عليه، وينبغي للداعي أن يجمع في دعائه بين الخوف والرجاء، وأن ذلك أرجى في القبول.

معاشر المسلمين والمسلمات :هاكذا تكون صفات عباد الرحمن: أنهم مع اجتهادهم في الإيمان والعمل الصالح، يخافون الله تعالى أن يدخلهم نار جهنم، التي يلازم عذابها أهلها. وهذا من صدق عبوديتهم حيث جمعوا بين العمل والخوف.

قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ﴾ [المؤمنون: 57-61].

فهؤلاء الصالحون -نسأل الله أن يجعلنا منهم- يدعون الله فيقولون: ﴿ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً ﴾ [الفرقان: 65].
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الخائفين من رب العالمين مع كونه سيد المرسلين.

فعن عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين . والحمد لله رب العالمين.

عبد الرحمان سورسي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

18 − اثنا عشر =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض