في التباسات قراءة القرآن الكريم

في التباسات قراءة القرآن الكريم: ومضاتٌ نقدية – الومضة الثانية

محمد التهامي الحراق

الومضة الثانية: علي حرب والتباس المماهاة بين النص وقراءاته

علي حرب واحد من المفكرين المعاصرين الذين التبس عليهم أيضا أمر هذه “اللانسقية” المميزة للعقلانية القرآنية، كما كشفت عن ذلك  آراؤهُ في أحد الحوارات الأخيرة[13]. فمع تقديري لأعمال الرجل على امتداد ثلاثة عقود في النقد والفلسفة وتفكيك الخطاب؛ فإنه لا يمكنني إلا أن أعبر عن اختلافي مع جم من تلك الآراء التي أدلى بها في هذا الحوار؛ ومن بينها اختلافُه مع الذين ينفون الإرهاب عن الإسلام، يكتب: “أنا أخالفُ الذين ينفون وجود علاقة بين الإسلام والإرهاب من المثقفين والساسة العرب والغربيين..”، مضيفا طامة أخرى وهي قوله في نفس السياق: “…ولا جدوى هنا من حشر القرآن في المجادلات الدائرة”، مفسِّرا ذلك بأمرين؛ “أولا، لأن القرآن يقول الشيء ونقيضهُ سواء في مسألة الإرهاب أم سواها من المسائل؛ وثانيا لأن الذي صنع هوية المسلم ليس هي قواعد التعارف والتواصل بين الناس، بل الأنساق الكلامية والمنظومات الفقهية التي أسست للعداوةِ بين المسلمين، ثم بينهم وبين سواهم”[14].

لن يكون بإمكاني هنا تقديمُ رد تفصيلي على ما يتخلَّل هذه الأفكارَ من ألوان التهافت، لكنني أجدني، ومن باب نقد نقد علي حرب، وانطلاقا من نفس المرجعية التي ظل يشتغل بها ومن خلالها، ألتقط التناقض الرئيس الذي يخترق هذا الرأي؛ وهو كونهُ يربط الإرهاب بالإسلام ويعيبُ على الذين ينفون العلاقة بينهما، وفي ذات الوقت يؤكد أن “الأنساق الكلامية والمنظومات الفقهية (هي) التي أسست للعداوةِ بين المسلمين، ثم بينهم وبين سواهم”؛ فكيفَ يطابقُ صاحب “نقد النص” و”نقد الحقيقة“، وفي تعميم مريب، بين “خطاب الدين” و”الخطاب عن الدين”؛ أي بين “الإسلام” بما هو نصوص وحيانية وكليات متعالية مؤسِّسَة، وبين “الأنساق الكلامية والمنظومات الفقهية” التي هي قراءات تاريخية لتلك النصوص والكليات؟؟؟… في حين أن المرجعية الحديثة لـ “القراءة” تؤكد ارتباط هذه الأخيرة بمحدِّدَاتها المنهجية والسياقية وخلفياتها الواعية واللاواعية، وهو ارتباط ما فتئ ينبه عليه علي حرب في أفقه النقدي التفكيكي؛ مما يجعل وقوعَه هنا في المماهاة بين النص وقراءاتِه أمرا يخالفُ الأسس الإبستمولوجية التي ما فتئ يشتغل بها وعليها علي حرب في عمله النقدي للنص والحقيقة.

وممَّا يزيد هذا الرأي تهافتا هو كون علي حرب، يؤكد أن القرآن “ليس نسقيا” وفي ذات الوقت يحمِّل الإسلامَ، الذي مدارُه حول النصوص الوحيانية، وزرَ “الأنساق الكلامية والمنظومات الفقهية”. ثم ما يُثيرُ الاستغرابَ أن علي حرب، صاحب التفكيك والنقد، يرى أن “القرآن يقول الشيء ونقيضَهُ سواء في مسألة الإرهاب أم سواها من المسائل”؛ مُعرِضا في ذلك عن محاورة كل تراث الدراسات القرآنية في فهم ما عدَّه تناقضا من جهة، وصادرا من جهة ثانية في ذلكَ عن رؤية مانوية لا تستوعب مفهوم “التناقض” في نص “لا نسقي” مفتوح؛ ومن منظور معرفي يبني بعد تفكيك، منظور منتِج للمعنى لا مُهْدِرٍ له، كما نجد معالم من ذلك ببهاءٍ في القراءات الصوفيةِ التي لم يستحضرها علي حرب وهو يُدين “الأنساق الكلامية والمنظومات الفقهية التي أسست للعداوة بين المسلمين ثم بينهم وبين سواهم”؛ فيما تلك القراءات، وخصوصا في شقِّها العرفاني، تقدم أفقا معنويا آخر للعلاقة الروحانية بين المختلفين عقديا، يخرجها عن دائرة الاستبعاد المتبادل إلى دائرة الاشتراكِ في أصل الاعتقاد لا في صوره المتعددة؛ على أن عدم استحضار هذا الأفق يعني مرة أخرى تهافتَ المطابقة بين تلك “الأنساق الكلامية والمنظومات الفقهية” وبين الإسلام.

على أن ما يعنينا بشكل مباشر هنا في حوار علي حرب هو البعدُ الإسقاطي والمغالطة التاريخية التي يقع فيها وهو يحاكم النص القرآني “اللانسقي”، ذا اللغة الشعائريةِ والأفق الغيبي والبعد النبوي والبسط القصصي والحِكَمي والاستعاري لقيم الدين ومتعالياته الأخلاقية…؛ يحاكمُ ذلك بمعايير الكتابة النسقية المغلقة المختلفة جذريا عن “تلميحات” الخطاب القرآني الشعائري والغيبي والأخلاقي، مما يجعل تلك المحاكمة ترى في هذا الخطاب “فوضى عارمة” و”غياب الانسجام” و”خروج عن المألوف”، كما سبق أن سجل ذلك محمد أركون[15]. فيما ذهبَ آخرون، كما رأينا سابقا، إلى تقديم قراءة ما بعد حداثية لما يُعَدُّ “لا نسقيا” في القرآن الكريم، الأمر الذي أفضى إلى نتائج مثيرة وغير متوقعة. وهي قراءة، سواء اختلفنا أم اتفقنا معها، ترسم مسارا آخرَ لتلقي اللغة القرآنيةِ و”لا نسقيتِها” بشكل أوْأمَ وألأمَ للخلفيات الفلسفيةِ التي ما فتئ يُبَشرُ بها علي حرب في كتاباته.

وإجمالا، فإن خلط علي حرب بين الإسلام وقراءاته، واختزال الإسلام في الأنساقِ الكلامية والمنظومات الفقهيةِ، وعدم اعتباره لموروث هائل من الدراسات القرآنية، ونأيه عن استثمار أفقه النقدي التفكيكي للخروج من النظرة المانوية نحو فهم جدلي يتجاوز المنطقَ الأرسطي ليستوعب ما يعده “تناقضا” كعنصر بنيوي في تشكيل حقيقة نص “لا نسقي” مفتوح، ثم عدم استيعاب خصائص اللغة القرآنية بعيدا عن كل إسقاط أو مغالطة تاريخية…..كل ذلك أفضى بعلي حرب إلى الوقوع الشنيعِ في الربط الماهوي بين الإسلام والإرهاب، واستبعاد القرآن الكريم من إنتاج قيم رحموتية إنسية كونية تستوعب خصائص اللغة القرآنية في أفق قرائي يذهبُ بالنص نحو إعادة امتلاكه، ويجعله منتِجا للمعنى مغذيا له معرفيا وروحانيا وأخلاقيا في السياقِ المعاصرِ وضمن رهاناته، وهو ما يلائم روحه في نظرنا، لا أفقا يتعسف على القرآن فيماهي بينه وبين قراءات تُذكي الإرهابِ، وتسهم في توسيعه وتغذيته بإلغاء كل إمكان قرائي لإنتاج تلك القيم الإنسية الرحموتية الكونية، وهو الإمكان الذي يتيحه النص القرآني بشكل باهر وتزخر به ثقافتنا الإسلامية قديما وحديثا.

——

[13] – مجلة “يتفكرون“، العدد 11/2018.

[14] – نفسه، ص.152.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

واحد × 5 =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض