إني ذاهب إلى ربيسلايدر

في الحاجة إلى “نقد” الخطاب الوعظي

إنـي ذاهب إلى ربـي
مقاربات في راهن التدين ورهاناته

محمد التهامي الحراق

نعني بالخطاب الوعظي، هنا، تلك الممارسات الخطابية الدينية التي تتغيى وعظ المخاطَبين وتوجيههم إلى مختلف أنماط الاعتقاد والسلوك السليم من المنظور الأخلاقي والديني، سواء تعلق الأمر بالعقيدة أو العبادة أو المعاملة، ومن ثم فهو خطابٌ يتوجه إلى مخاطبيه برسالة “الهداية” و”الإصلاح”، مستنِدا في ذلك إلى سلطة روحية خاصة تمتلكها المرجعية الدينيةُ في ذهن ووجدان المتلقي أو المرسَل إليه؛ مناطُها أساسا، في خطابنا الديني الإسلامي، “تعاليم” النصين التأسيسيين للإسلام “القرآن الكريمُ” و”السنة النبويةُ”؛ ودعامتها تراث زاخر من العلوم والمعارف المؤسَّسَة عليهما؛ والمؤصِّلة لمختلف الأحكام والقيم الموسومة بهذا الاعتبار “إسلاميةً”؛ سواء أكانت أحكاما فقهية أم قيما أخلاقية؛ ترفدهما منظومةُ عَقَدية أسهمت مختلف المعارفِ الدينية من تفسير وحديث وأصول وكلام وتصوف وفلسفة… إلخ، في تشكيلها.
إن الخطاب الوعظيّ، بوصفه رسالةَ هدايةٍ، ينطلق من مرجعية دينية تمثل نظاما معرفيا للاِعتقاد واللاعتقاد؛ ونسقاً مُحْكَما للحقيقة الإلهية؛ بحيث إن “الواعظَ” يتوسَّل بمختلف الوسائطِ والطرائق من “تذكير” و”حِجاح” و”ترغيب” و”ترهيب”… ويستدعي من مختلف المعارف والأدلةِ والتجارب والنصوصِ والحكاياتِ ما به “يُوقظ” ذاك المعنى الديني الكامن في المُرسَل إليه؛ كان هذا المعنى “خوفا” أو “رجاءً” أو “توبةً” أو “إيثارا”… إلخ. ويُعتبر “الواعظُ” قد بلغ مناه وأدرك مقصدَه إذا أثمر خطابُه تحولا في مخاطَبه أكان تحولا في الفهم أم في القول أم في السلوك؛ بحيث يجد المُرسَل إليه في خطاب واعظِه ما يُشعِره بـ”الطمأنينةِ” والإقبال السعيد على اختيارٍ يَشعُر أنه يُقرِّبه من جوهرِ المعنى ويطابق، نوعا من المطابقة، الإرادةَ الإلهية المتعالية، والتي تبعثُ فيه الإحساسَ بجدوائيةِ وجوده في هذا العالم؛ لأنها تُضفي على حياته معنى، وتُذيقُه “حلاوةَ الإيمان”؛ أي حلاوةَ معانقةِ ما ينبجسُ له حقيقةً مطلقة.
الخطابُ الوعظي إذا توجه إلى المُعتقِد وغيرِ المعتقِد كانَ دَعَويا؛ لذا فكل خطابٍ وعظيّ دعويٌ وليسَ كل خطاب دعويٍّ وعظيٌ. هذا الاختلافُ في المرسَل إليه موجِبٌ لاختلاف في “الرسالة”؛ أو قل هذا الاختلاف في المخاطَب موجِب لاختلاف الخطابِ أسلوباً وآلياتٍ ومقاصدَ؛ ومن ثم موجِبٌ لمراجعة إوالياتِ التواصل في النموذجين. على أن التواصل مرتبطٌ أشد الارتباط بشرائطَ ومحدداتٍ متصلة بالزمان والمكان والسياق وخصوصيةِ المخاطَب… إلخ. من هنا يمكن القول إن الخطابَ الوعظي، من وجهةٍ تواصلية، خطابٌ تاريخي؛ أي مرتهِن إلى حيثياتٍ اجتماعية وثقافية ولغوية وبيئية ونفسية، هي دائمةُ التحول والتغير والصيرورة. فكيف يمكن لخطاب يروم الهدايةَ للحقيقة المطلقة المتعالية أن يمارسَ وظيفتَه هذه في سياقاتٍ محكومة بالصيرورةِ والتحول والنسبية !؟
نحن هنا إزاء سؤالٍ يقتضي منا مراجعةَ العلاقة بين النسبيّ والمطلق؛ بين التاريخيّ والمتعالي؛ بين البشريّ الدنيويّ والإلهيّ المقدس، هذه العلاقة التي ظلت دوما محلَّ التباس جراء تقديس كثير من الحقائق التاريخية، وإضفاءِ التعالي على كثير من المُنْتَجَات الفكرية البشرية، مما جعلها تلتبسُ بالحقائق المتعالية أو تحجبُها أو تحلُّ محلها. وقد أسهمتْ في تكريس ذلك عبر التاريخ السلطةُ السياسيةُ من خلال تغليب رأي السلطةِ لا سلطةِ الرأي، وذلك عبر الإكراهِ وإقفال بابِ الاجتهاد وإلغاء الاختلاف باسم “الحق” المطابقِ للحقيقة الإلهية. لذا فإن السؤالَ المذكور يدفعنا إلى الإقرار بضرورة تحليل عناصر الخطابِ الوعظيّ لإدراك طبيعةِ حضور هذه العلاقة الملتبسة بين التاريخيّ والمتعالي، في وعيِ ولا وعيِ المُرسِل والمُرسَل إليه، ولإبرازِ تجلياتِ هذا الحضور الظاهرةِ والضامرة في الرسالة. على أن هذا التحليل يحملُ دلالةً نقدية، بمعنى أنه يروم أن يكون نقداً للخطاب الوعظيّ بحيث يشير “النقد” هنا إلى نوع من التفكير التساؤليّ والتشريح الـمنهجيّ والفحص المعرفيّ لآليات الخطاب الديني الوعظيّ وطرائقِ اشتغاله وطبيعة مرجعياته وموقعه في نسيج الخطابات المعاصرة السائدة التي تقاسِمُه، جزئيا أو كليا، الحديثَ باسم تلك المرجعيات أو تصدر، في وجه من الأوجه، عن تعاملٍ معين معها.
من هنا، يمكن القولُ إن النقد المنشودَ هنا ليس نقدَ الصيرفيّ المميِّز في”العملةِ” بين جيِّدِها وزائفِها، نحن هنا لا نَصْدُر عن أحكامٍ ولا نُصْدِر أحكاماً، وهذا النقدُ المنشود لا يروم، باللغة المدرسية، تمييزَ إيجابياتِ هذا الخطاب عن سلبياته، كما أن مفهومَ “النقد” لا يحمِل في هذا الاستعمال أي “دلالةٍ قدحية”، كما سار وساد في الاستعمالِ العام -أو في الابتذال العام- لهذا المصطلح؛ إذ نحن أبعدُ ما نكون هنا عن ثنائية التعريض أو التقريظ؛ القدح أو المدح؛ التهجين أو التزيين؛ الهجاء أو الثناء… إلخ، فالنقد، كما نَعِيهِ هنا، مقاربةٌ تحليلية لمكوناتِ الخطاب وآلياتِ اشتغاله، ورصدٌ لمناطق تفكيره ومساحات اللامفكر فيه ضمن هذا الخطاب، واختبارٌ لمدى إجرائية مفاهيمه على ضوء “النوايا” التي يعلنها و”المقاصد” التي يُسطِّرها؛ وكذا على ضوء منهاجه وما تُسفِر عنه بعض أنماط ممارساته من مفارقاتٍ تقتضي تفكيكَ هذا الخطاب وإعادةَ طرح الأسئلة الغائبة والمُغيَّبة بصدد مفاهيمه وفعالية صياغاته وصلاحية إوالياته؛ فضلا عن مراقبة أشكالِ التلقي وطبيعة الآثار التي يُنتجها هذا الخطابُ في أنماط مستقبليهِ عبر تغيّر حواملِ الخطاب وقنواته الشفهيةِ المباشرة والمكتوبة والاتصالية الفضائية والافتراضية…إلخ. إنه طموحٌ أكبر من حجم الصُّفيحات. لذلك تبقى هذه الملاحظات والتحديدات إلماعاتٍ تكشفُ عن مدى حاجتنا لنقد الخطاب الوعظي، أو قل مقدمةً أوليةً لما ينبغي إنجازُه في هذا الصدد، وذلك لفهم العديد من الإشكالات والمفارقات والقضايا المرتبطة بهذا الخطاب ودرجة مفعولاته الثقافية والاجتماعية والنفسية، فضلا عن آثاره الروحية والدينية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

1 × ثلاثة =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض