آراء ودراساتمع قهوة الصباح

في العقلانيةِ الإيمانية…

محمد التهامي الحراق

لعل من أبرز خصائص “العقلانية الإيمانية”، كما نفهمُها، أنها تشتغل على أفق يرتفع فيه كل “خصام” بين أطرافِ ثنائياتِ: “العقل والإيمان”، “العلم والدين”، “الوحي والتاريخ”؛ وحتى إن كان ثمة نوع من “الخصام” في بعض المنظوراتِ بين تلك الأطرافِ، فهو في هذا الأفق، وبلغة بعض الفلاسفةِ المعاصرين، خصامُ عُشَّاقٍ ليس إلا. وإذا اقتصرنا في هذا المقال الوجيزِ على الثنائيةِ الأولى، يمكن القول إن العقلَ، ليس فقط بما هو مَلَكَةٌ فطرية إنسانيةٌ بل بمَا هو أيضا طاقةٌ استدلاليةٌ جبَّارةٌ ما تفتأ تُطَوِّرُ من أدواتِها بتطوُّرِ المعارفِ التي يُنتِجها هذا العقلُ نفسُهُ، قدْ أكَّدَ تاريخُهُ مدى احتياجهِ لـ”الإيمان”؛ أي احتياجهِ لاستبطانِ الغيبِ والتعالي والاعترافِ بخصوصيةِ “منطقِهِمَا” الروحاني المُفَارقِ، مثلمَا تأكَّدَ أن الإيمانَ يستحيلُ بلورتُهُ في عقائدَ تُغذي المعنى في المؤمنينَ وتثمِرُ الأخلاقَ في سلوكِهِم، وتجعلُهم فاعلينَ في التاريخِ، ما لمْ تنبنِ وتتشكَّلْ تلك العقائدُ وفقَ معقوليةِ إيمانيةٍ تلائمُ أو توسِّعُ منطقَ عصرِهم المعرفي.
يعلِّمُنا القرآن الكريمُ أن الفعلَ العقلي، وكما هو حاضرٌ في الشبكةِ المعجميةِ القرآنية، لا ينفصلُ عن القلبِ موطنِ الإيمانِ وأداتِه؛ ذلكَ أنهُ لا وجودَ لاسم مصدر “عقل” في هذه الشبكة، ومن ثم لا وجودَ لتقابل ثنائي يفصلُ بين العقل والقلب؛ بل تَحضر مادة “ع،ق،ل” بوصفها حركة فعليةً ودينامية وظيفية تتنزل من القلب منزلة الاستماع من الأذن والإبصار من العين. قال تعالى: “أفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ” (الحج 46)؛ وقال أيضا : “وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ” (الأعراف 179)؛ وقال سبحانه: “أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا” (محمد 24). وهو ما يعني أن القلبَ من حيثُ هو “لطيفة ربانية روحية” ومركز للإدراك والشعور في الإنسان، يضطلع بوظيفةِ الفعل العقلي عبر جميع آلياته من “تذكر” و”تدبّر” و”تفكّر” و”إبصار” و”تفقه”…وهي ألفاظ “نصبت للدلالة على معانٍ لها تعلق بالمغيبات” على غرار الصيغ الفعلية من مادة “ع، ق، ل” كما أكد ذلك المفكر الكبير طه عبد الرحمن. الأمر الذي يعني أن الفعل العقلي في القرآن الكريم موصولٌ بالقلبِ بما هو موطن الإيمانِ وأداته، مثلما يعني أيضا اختلافَ هذا الفعلِ العقلي عن مفهوم “العقل الأرسطوطاليسي” المفصول عن التعالي. وهذه واحدةٌ من الحقائقِ التي تؤكد ما سبق أن نبهَ عليه محمد إقبال في كتابه “تجديد التفكير الديني في الإسلام”، حينَ اعتبرَ أن الفلسفة اليونانية قد حجبت في بعض اللحظات عن المسلمين خصوصيةَ المنطقِ القرآني. وهي خصوصيةٌ أسست لاختلافِ علاقة العقل بالإيمانِ في المنظور الإسلامي عن علاقتها في الفلسفةِ اليونانية كما في الفكرِ المسيحي؛ بحيثُ لا يغدو مشروعًا من هذا المنظور، مثلا، تبني قولة الفيلسوفِ المسيحي بليز باسكال: “إن للقلبِ دوافعَهُ التي لا يستوعبها العقل”.
وإجمالا، وبالرجوعِ إلى النظر في تاريخ علاقةِ العقلِ بالإيمانِ في السياقينِ الإسلامي والغربي، يمكنُ الخلوصُ إلى أن خطورةَ انفصالِ الإيمانِ عن العقلِ لا تقلُّ ضراوةً عن خطورةِ انفصالِ العقلِ عن الإيمان. فالأولَى أنتجت الأصولانية الدينية ( الانغلاقات الدوغمائية الدينية، التيارات التكفيرية المتشددة، الحروب الدينية، محاكم التفتيش…)، والثانية أفرزت الأصولانية اللادينية (الأنظمة الشمولية اللادينية، الحربات العالميتان، الهيمنة الاستعمارية، النزوعات الاستهلاكية المتوحشة…). وكلاهما عنوانٌ للعنف والإلغاء والكراهية والتعصب؛ بل كلاهما عدوٌّ للإنسان حياةً وكرامةً. لذا ترومُ العقلانية الإيمانية، من خلال الاستلهامِ القرآني الآنف، بناءَ عقلانيةٍ منفتحةٍ لا تُلغي النص الوحياني الواشجِ بينَ الغيبِ والشهادةِ، لكنها تؤمن بانفتاحه اللانهائي على الاستنارة بالعقل وإنارته. إنها عقلانية تؤمن بالعلاقة الخلاقة بين “عقل” مفتوح على تجديد الإيمان، و”نقل” مفتوح على تجديد القراءة؛ علاقة جدلية بين عقلنة النص وروحنة العقل طلبا لتكريم الإنسان بشتى أبعاده وآفاقه.
هكذا نسجّل أن العقلانيةَ الإيمانية، وبقدرِ ما تنشغِلُ بضرورةِ النقد الروحاني للعقل الوضعاني والعلموي والتقني، وبالدعوة إلى توسيعهِ ليعترفَ بطاقاتِ الإنسانِ المختلفةِ وبآفاقهِ المعنوية والروحية والغيبية التي تتجاوزُ حدودَ إدراكِ العقلِ المفصولِ عن التعالي، بقدر ما تنشغلُ هذه العقلانيةُ أيضا بتجديدِ هذا الإيمان لكي يكونَ مغذيا للعقلِ في صيرورته وتطورهِ لا ملغيا لهُ كما حصل بشكل واضح في التاريخ المسيحي الوسيط. في هذا الأفق نفهمُ حديث الرسول صلى الله عليه وسلم حين يقول: “جددوا إيمانكم فإن الإيمان يبلى كما يبلى الثوب. فقالوا: ما نقول يا رسول الله؟ قال: قولوا لا إله إلا الله”. إن هذا التجديد يمثل ضرورةً قصوى في هذا الأفق؛ لكونهِ وسيلةَ لإخراج حالةِ الإيمان من إيمان الوراثة إلى إيمان الاقتناع العقلي من حيثُ هو أداةٌ لتحصيلِ طمأنينة القلب، طلبا للارتقاء في هذه الطمأنينةِ إلى إيمان المعرفة المتجددة بالله، وهو ارتقاء لا حد ولا نهاية له “وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنتَهَىٰ” (النجم، الآية، 42). لذلك نحتاج دوما إلى خطابٍ ديني قادر على الإبحار المتجدد في “لا إله إلا الله”، فلسفيا وروحيا، تساؤلا وتنسكا، اجتهادا ومجاهدة، كيما نَخْرُجَ بالإيمان من التعويض النفسِي إلى التغذية العقلية والروحية، ومن ثم تحقيق الاكتشاف المتجدد للتوحيد والاستكشاف المولِّد للمعنى في العقول والأفئدَة، والذاهب بالروحِ إلى أقاصي معرفتِها بأسرارها اللانهائية. بدون هذا العمل العقلي والروحي فإن الإيمان قد يبلَى، فتتحول الشعائر إلى طقوس بلا معنى، ورسوم بلا روح، لِتصبِحَ النصوصُ الدينيةُ مغلولةَ الأثر في الحس والمعنى، ويضحي التدين جافا ناضبا من كل دلالة على الحقيقة الالهية المتعالية.
هكذا يبدو- وكما أدركَ ذلك جمٌّ من العلماء والفلاسفة والروحانيين المسلمين والغربيين قديما وحديثا- أن الإيمانَ والعقل حينَ يفرطان في هذه العلاقة القائمة على التحديد والتجديد المتبادل، يصبحانِ جزءا من المعضلة الوجودية، بدل أن يكونا مفتاحينِ من مفاتيحِ حلِّها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

أربعة × 5 =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض