
بعض معالم السيرة النبوية من خلال “سورة الضحى”
محمد المودن
يعد القرآن الكريم من أصدق وأحفظ وأيقن وأوثق الكتب التي تحدثت عن الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته، وإن كان حديثه هذا تميز بالاقتضاب الذي يوفي بالغرض، ويغني عن الحاجة، وهذه بعض معالم السيرة النبوية التي تحدث عنها القرآن الكريم، نسوق إليكم نموذجَه من خلال سورة ” الضحى “.
قال تعالى:
( وَالضُّح۪يٰ (1) وَالليْلِ إِذَا سَج۪يٰ (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَل۪يٰۖ (3) وَلَلَاخِرَةُ خَيْرٞ لَّكَ مِنَ اَ۬لُاول۪يٰۖ (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْض۪يٰٓۖ (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماٗ فَـَٔاو۪يٰ (6) وَوَجَدَكَ ضَآلّاٗ فَهَد۪يٰ (7) وَوَجَدَكَ عَآئِلاٗ فَأَغْن۪يٰۖ (8) فَأَمَّا اَ۬لْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْۖ (9) وَأَمَّا اَ۬لسَّآئِلَ فَلَا تَنْهَرْۖ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثَۖ 11).
سورة الضحى هذه مكية وهي تعالج كغيرها من السور المكية قضية، الكون،.. وقضية السيرة النبوية في بعض معالمها، .. وقضية الأخلاق.
تبدأ السورة في مقطعها الأول، بمكونات كونية تتعاقب على الأرض والإنسانية، وهو أول النهار وبداية اليل، وهما بترابطهما يكونان الوحدة الزمانية كترابطهما الموجود في الآية، وذلك قوله تعالى: ” والضحى، واليل إذا سجى “،”. فكلمة: ” الضحى ” معناها كما يقول فخر الدين الرازي: ” لأهل التفسير في قوله تعالى: ” والضحى ” وجهان: أحدهما:
أن المراد بالضحى وقت الضحى، وهو صدر النهار حين ترتفع الشمس. وثانيها: أن الضحى هو النهار كله، بدليل أنه جعل في مقابلة الليل كله “.
أما كلمات: “والليل إذا سجى”، فالليل معروف يتعاقب هو والنهار ليشكل يوما في حساب الأرض، ومنه يتكون حساب أعمار الناس، والحيوان، والأشياء.
أما لفظ: ” سجى ” فلأهل اللغة فيه ثلاثة أوجه متقاربة:
الأول: بمعنى السكون.
والثاني: بمعنى أظلم.
والثالث: بمعنى غطى
ومناسبة القسم ب: ” الضحى والليل “؛ أن الضحى وقت انبثاق نور الشمس، فهو إيماء إلى تمثيل نزول الوحي، وحصول الاهتداء به، وأن الليل وقت قيام النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن، وهو الوقت الذي كان يسمع فيه المشركون قراءته من بيوتهم القريبة من بيته، أو من المسجد الحرام.
والحكمة من تقديم ذكر الليل في السورة السابقة، وتأخيره في هذه السورة: ” أن باليل والنهار ينتظم مصالح المكلفين، والليل له فضيلة السبق، .. كما للنهار فضيلة النور، بل الليل كالدنيا، والنهار كالآخرة،. .. أما الحكمة من تخصيص وقت الضحى بالذكر، فلأنه وقت اجتماع الناس، وكمال الأنس بعد استيحاش في زمان الليل، والمعنى: فبشروه أن بعد استيحاشك بسبب احتباس الوحي، يظهر نزوله من جديد “.
فجملة قوله تعالى: ” والضحى والليل إذا سجى “، لها ارتباط بما قبلها، وامتداد لما بعدها، فبالرغم من هذا الامتداد، فهي تكون وحدة دلالية وتشكل موضوعا متكاملا بإشارة خفيفة إلى مكونين من مكون اليوم البشري، فبالضحى، إشارة إلى النهار كله، فالضحى مطلعه، وهي من باب التعبير بالجزء وإرادة الكل، إذ أعقبه بالليل وهو حد للنهار.
يمتد محور السيرة النبوية في هذه السور من قوله تعالى: ” ما ودعك ربك وما قلى، وللآخرة خير لك من الأولى، ولسوف يعطيك ربك فترضى، ألم يجدك يتيما فآوى؟، ووجدك ضالا فهدى؟، ووجدك عائلا فأغنى؟”.
يتمتع هذا المقطع من السورة بمجموعة من الخصائص الأسلوبية، وأولها: الخطاب المباشر المتمثل في كاف الخطاب، بدءا من الكلمة الأولى في قوله تعالى: ” ودعك، ربك، … “، فجملة قوله تعالى: ” ما ودعك ربك وما قلى فيها إشارة إلى حدث تاريخي مرتبط بحياة النبي صلى الله عليه وسلم ومسار الوحي، فهي تشير إلى فترة حاسمة من حياته صلى الله عليه وسلم، حيث توقف الوحي عنه مدة زمنية، كما تشير جملة قوله تعالى: ” ألم يجدك يتيما فأوى “، إلى مرحة الطفولة في حياة النبي حيث توفي أبوه، ثم تلته أمه، وهو حينها لم يبلغ سن الرشد، كما تشير جملة قوله وتعالى: ” ووجدك ضالا فهدى ” تشير إلى مرحلتين: مرحلة ما قبل النبوة، ومرحلة ما بعد النبوة إن فسر الضلال هنا بمقابل الهدى، أو تشير إلى حدث كتب عنه أصحاب السير أنه صلى الله عليه وسلم ضل في صباه بشعاب مكة، لما كانت حليمة قادمة به إلى أمه.
فلفظ قوله تعالى:” ما ودعك ربك وما قلى “، واقعة جوابا للقسم نافية ما تحمله كلمة، ودعك وقلى، من أن يكون معناهما قد حصل في الواقع.
أما السياق التاريخي لهذه الآية المرتبط بحياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وسيرته، وحالة النبوة والوحي، قال المفسرون في هذه الآية: ” أبطأ جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال المشركون: قد قلاه الله وودعه، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقيل: أبطأ عليه الوحي أربعين ليلة، فشكا ذلك إلى خديجة، فقالت: لعل ربك نسيك أو قلاك، وقيل: إن أم جميل امرأة أبي لهب قالت له: يامحمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك، وروي عن الحسن أنه قال: أبطأ على الرسول صلى الله عليه وسلم الوحيُ فقال لخديجة: إن ربي ودعني وقلاني يشكوا إليها، فقالت: كلا؛ والذي بعثك بالحق ما ابتدأك الله بهذه الكرامة إلا وهو يريد أن يتمها لك “.
أما جملة قوله تعالى: ” ألم يجدك يتيما فآوى، ووجدك ضالا فهدى “، يقول الطاهر بن عاشور في تحريره: ” استئناف مسوق مساق الدليل على تحقق الوعد؛ أي هو وعد جار على سنن ما سبق من عناية الله بك من مبدإ نشأتك ولطفه في الشدائد باطراد .. والكلام تمثيل لحالة تيسير المنافع للذي تعسرت عليه بحالة من وجد شخصا في شدة يتطلع إلى من يعينه أو يغيثه، و ” اليتيم ” الصبي الذي مات أبوه، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم توفي أبوه وهو جنين، أو في أول المدة من ولادته.
ولفظ ” الإيواء “مصدر آوى إلى البيت، إذا رجع إليه، فالمعنى أنشأك على كمال الإدراك والاستقامة، وكنت على تربية كاملة، مع أن شأن الأيتام، أن ينشأوا على نقائص، لأنهم لا يجدون من يعتني بتهذيبهم وتعهد أحوالهم الأخلاقية .. ، فكان تكوين نفسه الزكية على الكمال خيرا من تربية الأبوين “.
أما لفظ ” ضالا “، فمعناه: ” عدم الاهتداء إلى الطريق الموصل إلى مكان مقصود، .. قال ابن إسحاق: ” وزعم الناس فيما يتحدثون، ـــ والله أعلم ــ أن أمه السعدية لما قدمت به مكة أضلها في الناس وهي مقبلة به نحو أهله، فالتمسته فلم تجده، فأتت عبد المطلب فقالت له: إني قد قدمت بمحمد هذه الليلة، فلما كنت بأعلى مكة أضلني، فوالله ما أدري أين هو؟ فقام عبد المطلب عند الكعبة يدعوا الله أن يرده، فيزعمون أنه وجده ورق .. ، ورجل آخر من قريش، فأتيا به عبد المطلب .. فأخذه ثم أرسل به إلى أمه “. ولفظ ” العائل ” معناه: ” الذي لا مال له، والفقر يسمى عيْلة، قال تعالى: ” وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء “، وقد أغناه الله غناءين: أعظمهما غنى القلب، إذ ألقى في قلبه قلة الاهتمام بالدنيا، وغنى المال، حين ألهم خديجة مقارضته في تجارتها، “.
بعد ما أشارت السورة في مطلعها إلى محور كوني، انتقلت بعده إلى مراحل من حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعض أحواله، ها هي تنقتل بنا إلى محور أخلاقي، أو ما يجب فعله مع هذه الأحوال في المستقبل من عدم قهر اليتيم ونهر السائل. المتمثل في قوله تعالى: ” فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر وأما بنعمت ربك فحدث “.