
وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامً
الحمدُ لله ربِّ العالمين، اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُّه، ولَكَ الْمَنُّ كُلُّه، ولَكَ الْفَخْرُ كُلُّه، ولَكَ الْخَلْقُ كُلُّه، بِيَدِكَ الْخَيْرُ كُلُّه، وإِلَيْكَ يَرْجِعُ الأَمْرُ كُلُّه عَلَانِيَتُه وسِرُّه، نحمده سبحانه ونَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُه ورَسُولُه بَعَثَه بِالْحَقِّ نَبِيّاً دَالاًّ عَلَيْه وهَادِياً إِلَيْه.
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين . أما بعد : فيا أيها الإخوة والأخوات، لا زلنا نعيش مع عباد الرحمن، الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، وقد حدثنا الله عن وصف حالهم في أموالهم، فقال وهو أصدق القائلين ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾(2).
الآيةُ المباركةُ من سورةِ الفرقانِ متصدِّيةٌ لبيانِ صفةٍ أخرى من صفاتِ عبادِ الرحمنِ، هذه الصفةُ هي الإعتدالُ في الإنفاقِ، وعبَّرتْ الآيةُ عن هذا المعنى أولاً بنفي ما يُقابلُ الإعتدالَ في الإنفاقِ وهما الإسرافُ والتقتيرُ، ثم أفادتْ أنَّ السلوكَ الذي عليه عبادُ الرحمنِ في الإنفاقِ هو القَوَام بين هذينِ الطرفينِ، فلا هو إسرافٌ ولا هو تقتيرٌ بل هو بينَ بينَ، والذي هو تعبيرٌ آخر عن الوسطيةِ والاعتدالِ في الإنفاقِ.
فالقَوامُ هو الكَونُ في الوسطِ كما هو شأنُ مِعيارِ الميزانِ الذي يتوسَّطُ ويتحكَّمُ في كفتي الميزانِ، ويُعرفُ به التوازنُ من الرجحانِ لإحدي الكفتينِ، وسُمي بالقَوامِ لاستقامتِه واعتدالِه، فحينَ تكونُ كفتا الميزانِ متوازنةً، يكونُ معيارُ الميزانِ مستقيماً معتدلاً. فإلانفاقُ الذي يكونُ عليه عبادُ الرحمنِ، هو الذي لا يَميلُ فيه معيارُ الميزانِ تجاهَ أحدِ طرفي الإسرافِ أو التقتيرِ.
وقد تطرقت للحضِّ على الوسطيَّةِ والإعتدالِ في الإنفاقِ آياتٌ عديدةٌ:
منها: قولُه تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾(3) والمرادُ من العفوِ هو الوسطُ والاعتدالُ في الانفاقِ، كما هو مفادُ العديدِ من الرواياتِ الواردةِ عن أهلِ البيتِ، كمعتبرةِ ابنِ أبي عميرٍ، عن (بعضِ أصحابِه)، عن أبي عبدِ اللهِ (عليه السلام) في قولِ اللهِ عزَّ وجلَّ: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾ قال: العفوُ الوسط.
ومِن الآياتِ الآمرةِ بالإعتدالِ والناهيةِ عن التطرُّفِ في الإنفاقِ قولُه تعالى: ﴿وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا﴾(4).
مؤدَّى الآيةِ السالفة هو الأمرُ بالإعتدالِ والوسطيَّةِ في الإنفاقِ، ذلك أنَّ المرادَ من النهيِ عن جعلِ اليدِ مغلولةً إلى العُنُقِ، هو التقتيرُ، والمرادُ من النهيِ عن بسطِها كلِّ البسطِ، هو التبذيرُ والإسرافُ، فلم تبقَ سوى الحالةِ الوسطى بينهما، إذ لايخلو الإنفاقُ من إحدى هذه الحالاتِ الثلاثِ، فإذا كان التقتيرُ منهيَّاً عنه، وكان الإسرافُ منهيَّاً عنه، تعيَّنَ من ذلك أنْ يكونَ المأمورُ به هو الإنفاقُ المتوازنُ والمعتَدِلُ.
ومعنى اليدِ المغلولةِ إلى العُنقِ، هي اليدُ المصفَّدةُ والمشدودةُ إلى العُنقِ، وإذا كانت كذلك، فهي غيرُ قادرةٍ على فِعلِ أيِّ شيءٍ يُنتظر فعلُه من جارحةِ اليدِ، كالإعطاءِ الذي يتمُّ عادةً بواسطةِ اليدِ، فالنهيُ عن جعلِ اليدِ مغلولةً ليس نهياً عن ربطِ اليدِ إلى العُنقِ، لأنَّ ذلك لا يفعلُه عاقلٌ اختياراً، بل هو تعبيرٌ أريدَ به الكنايةُ عن التقتيرِ والبُخلِ، فالعربُ إذا أرادتْ أن تُعيِّرَ أحداً بالبُخلِ قالتْ: إنَّ يدَه مغلولةٌ، وهذا هو معنى ما افترتْ به اليهودُ على اللهِ تعالى حينَ قالوا: ﴿يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ فهم أرادوا مِن هذه الفِريةِ القولَ بأنَّ الله جلَّ وعلا بخيلٌ لا يُعطي ولا يَرزُقُ (تعالى اللهُ عما يقولونَ علوَّا كبيرا)، وقد شنَّعَ اللهُ تعالى على اليهودِ قولَهم: ﴿يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ فقال تعالى: ﴿غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾(5) فليس من شيءٍ يحولُ دون مشيئتِه، فهو يرزقُ مَن يشاءُ بما يشاءُ، ويمنعُ رزقَه مَن يشاءُ، ومَن شاءَ له الرزقَ قد يشاءُ له الحرمانَ منه أو مِن بعضِه، وقد يشاءُ له الزيادةَ فيه، ومن قَدَرَ عليه رزقَه، قد يَمنحُه متى شاء السعةَ في الرزقِ، فيداه مبسوطتانِ، ومعنى أنَّهما مبسوطتانِ، هو أنَّ الله تعالى له القدرةَ المطلقةَ على فعلِ ما يشاءُ.
فالتعبيرُ باليدِ المغلولةِ في كلا المرادين أريدَ منه الكناية إما عن التقتيرِ في الإنفاقِ والبخلِ كما في قولِه تعالى: ﴿وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ﴾ أو الكناية عن العجزِ أو البخلِ كما فيما حكاهُ اللهُ تعالى عن قولِ اليهودِ: ﴿يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ﴾.
وأما قولُه: ﴿وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ﴾ فهو نهيٌ عن الإسرافِ والتبذيرِ، فاليدُ المبسوطةُ كل البسطِ لا يكادُ يستقرُّ فيها شيءُ، ولذلك صحَّ أنْ يُكنَّى بها عن التبذيرِ والإسرافِ، ولهذا حين سُئلَ الإمامُ الصادقُ (ع) عن الآيةِ قبضَ بيدِه على حصيَّاتٍ صغار ثم بسطَ يدَه على آخرها فلم تبقَ فيها من حصيَّةٍ، فقال هذا هو البسطُ كلُّ البسط، وعاقبةُ البسطِ كلِّ البسطِ هو أنْ يقعدَ الإنسانُ بعدَه ملوماً محسوراً، لأنَّ ما عندَه محدودٌ، فإذا أنفقَه كلَّه كان حظُّه من ذلك الندمَ والحسرةَ وتوبيخَ العقلاءِ، لأنَّه قد لا يتهيأُ له الإستعاضةُ عمَّا أنفقَ. فالبسطُ الذي يَحمدُه العقلاءُ ولا تعقُبُه حسرةٌ إنَّما يليقُ باللهِ جلَّ وعلا فهو الغنيِّ المطلقُ الذي لا تنفدُ خزائنُه، لذلك ردَّ القرآنُ على اليهودِ فريتَهم بقوله: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ وقال تعالى: ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ﴾(6).
فالبسطُ المجاوزُ لحدِّ الاعتدالِ مذمومٌ في حقِّ الإنسانِ، كما انَّ القبضَ المجاوزَ لحدِّ الإعتدالِ مذمومٌ، ولأنَّه قد تحدَّثنا فيما سبَق عن الإسرافِ ومساوئِه، فالحديثُ في المقامِ سوف يتمحَّضُ حولَ التقتيرِ، والذي هو التضييقُ في الإنفاق، يقالُ قتَّرَ الرجلُ على نفسِه وعياِله فهو مقتِّرٌ بتشديدِ التاء أي أنَّه ضيَّق على نفسِه وعيالِه في النفقة، اختياراً رغم قدرتِه على التوسعةِ.
أيها السادة والسيدات:
ليس المفترض في عباد الرحمن، أنهم قوم لا مال لهم ، كلا! فهم أغنياء بالله، وليسوا عالة يسألون غيرهم النفقة عليهم، وقد وصف الله رواد المساجد، بأنهم (رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ )النور٣٧
فهم بلغة العصر، رجال أعمالهم تجارة وبيع، ولكن لا يشغلهم ذلك عن واجبهم نحو ربهم.
هكذا بين – سبحانه – حالهم فى سلوكهم وفى معاشهم فقال – تعالى – : ( والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ . . . ) .
أى : أن من صفاتهم أنهم ملتزمون فى إنفاقهم التوسط، فلا هم مسرفون ومتجاوزون للحدود التى شرعها الله – تعالى – ولا هم بخلاء فى نفقتهم إلى درجة التقتير والتضييق ، بل إنهم يعرفون حقا أن خير الأمور أوسطها.
واسم الإشارة فى قوله – تعالى – : ( وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً ) يعود إلى المذكور من الإسراف والتقتير . والقوام : الشىء بين الشيئين . وقوام الرجل : قامته وحسن طوله وهيئته، وهو : خبر لكان ، واسمها : مقدر فيها .
أى : وكان إنفاقهم ” قواما ” أى وسطا بين الإسراف والتقتير والتبذير والبخل ، فهم فى حياتهم نموذج يقتدى به فى القصد والاعتدال والتوازن . وذلك لأن الإسراف والتقتير، كلاهما مفسد لحياة الأفراد والجماعات والأمم ، لأن الإسراف تضييع للمال فى غير محله. والتقتير إمساك له عن وجوهه المشروعة، أما الوسط والاعتدال فى إنفاق المال، فهو سمة من سمات العقلاء الذين على أكتفاهم تنهض الأمم ، وتسعد الأفراد والجماعات.
اكتفي بهذا القدر، وأسأل الله العلي العظيم أن يجعلنا وإياكم من القوم الذين لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ليجزهم الله أحسن ما عملوا ويزيدَهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين
عبد الرحمان سورسي