
آراء ودراساتسلايدرمع قهوة الصباح
نظراتٌ في الدعاءِ الناصِري….في أن الافتقار هو باب الغنى (9)
محمد التهامي الحراق
دعما للأفق الروحاني في لحظات الابتلاء، واستحضارا لطاقة الدعاء عند الشدائد والضراء؛ كما تؤصل له المرجعية الإيمانية الجامعة بين البذل والتوكل، بين الأخذ بالأسباب وملازمة الدعاء؛ ننشر ها هنا نظرات في متن الدعاء الناصري (نسبة إلى الصوفي الكبير محمد بناصر الدرعي دفين تمكروت عام 1085هـ). ويعد هذا الدعاءُ واحدا من أشهر الأراجيز التوسلية التي اعتاد أهل المغرب استعمالها في باب التضرع عند الشدائد والمحن.
* * *
نواصلُ أيها الأحباب إبحارَنا في يمِّ قصيدة الناصرية للإمام سيدي محمد بن ناصر الدرعي علَّنا نظفر ببعض أصدافِها وجواهرها. فبالتأمل في مجمل الأبيات التي مرت معنا منها، وبالنظر في مختلف مداخل التوسل والتضرع التي طرقها الشيخُ في دعائه المبارك، يمكن أن نسجل أن هذا الدعاء تنتظمه ثنائية شاملة تؤطر مختلفَ مسارات التضرع في هذا الدعاء، وقوامُها بيان كمالِ الربوبية وبيانُ افتقارِ العبودية، بحيث يبسط الدعاءُ أوصاف الحق المترجِمة عن الكمال، مثلما تبسط أوصاف الخلق المترجِمة عن النقص والافتقار. ولايحيدُ عن هذا الأفق قولُه رضي الله عنه:
وليس منا في الوجود أحقرُ — ولما عندك منا أفقرُ
إذ هنا يذهب الناظم إلى أبعد مدى في تقمص صفة أضعفِ الموجودات، بل أحوجِها وأفقرها لما عند الله عز وجل؛ ذلك أن التخلق بالافتقارِ هنا هو باب الغنى، فالافتقار إلى الله هو استغناء به عما سواه، فـ “عبد الغنيّ غنيٌّ” كما هو في عرف القوم. وهذا عين التحقق بأوصاف العبودية والتعلق بأوصاف الربوبية اللذين أوصى بهما ابن عطاء الله السكندري في “حِكمه” حين قال: «كن بأوصاف ربوبيته متعلقا، وبأوصاف عبوديتك متحققا» فالأضداد تجلب الأضداد، ففي الافتقار إليه سبحانه غنى، وفي احتقار النفس عنده فَخار. وما استعمالُ الناظم لصيغتي التفضيل “أحقر” و”أفقر” إلا من أجل الدلالة على ما يقتضيه ذاك الافتقار من تذلل للحق سبحانه باعتبار هذا التذلل بابا للعز والفخار والدَّلال؛ وتلك مزية التذلل على أبواب الكبار، و لله در القائل:
وإذا لم يكنْ من الذلِّ بدٌّ — فــالقَ بالذل إن لقيت الكبارا
ليس إجلالُك الكبارَ بذُلٍّ — إنما الذلُّ أن تُجِلَّ الصِّغــار
وبعد اعتراف الناظم بكونه أفقرَ الخلق لما عند مولاه، وهذا مظهر سامٍ من مظاهر العبودية كما مرّ معنا، يأتي الناظم بنعت “الإحسان الواسع” الذي يمثل مجلى آخر من مجالي الربوبية، حيث يقول:
يا واسعَ الإحسان يا من خيره — عم الورى ولا يُنادى غيره
و”الواسع” اسم من أسمائه الحسنى عز وجل، فقد وسع علُمه كلَّ شيء، ووسعت قدرتُه كلَّ شيء، ووسعت رحمتُه كل شيء، كما يَسَعُ الخلقَ علماً، وقدرةً، ورحمةً، وحكمةً، وعدلاً، وكأن هذا الاسم يتصل بمُعظم أسماء الله الحسنى. على أن من أعظم تجليات هذا الوُسع الإلهي وسعُ إحسانه، يقول المصطفى صلى الله عليه و سلم: “فإن الله عز وجل مُحْسن يحب الإحسان”، و يقول أيضا عليه السلام: ” إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ”. فقد أحسنَ للإنسان إحسانَ إيجاد بأن خلَقه، و أحسن إليه إحسان إمداد بأن رزقه في الحس و المعنى. لذا فإن إحسانه واسعٌ يعم سائر الورى وجميعَ الخلق، أبيضَهم وأسودهم، كبيرَهم وصغيرهم، عربيَّهم وعجميَّهم، مسلما وغيرَ مسلم؛ مؤمنا وغارقا في العصيان… إلخ. فالإحسانُ الرباني جامع تام كامل شامل غيرُ مشروط، وهذا من أعظم دلالاتِ وُسْع الرحمة الإلهية، لذلك لا يُنادى ولا يُرجى ولا يُسألُ غيرُه سبحانه، فهو الوحيد المُنقذ والمُنجي، يقول الناظم:
يا منقذ الغرقى ويا حنان — يا منجي الهلكى ويا منان
ومعلوم أنه سبحانه “حنان” و”منان”، قال تعالى: ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾، و مِنَنُه سبحانه لا تعد و لا تحد، و نعمُه لا تحصى و لا تحصر، قال تعالى: ” وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَ “، وقال أيضا: ” وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ “.
ومن مظاهر مننه أنه سبحانه ينقذ الغرقى من مختلف أصناف الأزمات، ليس فقط تلك الحسية بل ينقذهم أيضا من تلك الأزمات المعنوية؛ كالغرق في الضلال والعصيان والمخالفات والآثام، كما أن من مِنَنِه أنه يُنْجِي سبحانه العبد من مختلف المُهلِكات؛ مهلكات الحس ومهلكات القلب والروح؛ لذلك على المؤمن أن لا تأخذهُ سِنَةُ الغفلةِ عن الدعاء، وأن لا يتردد في سؤال الحنَّان المنان، و مد الكف بالطلب لواسع الإحسان.
قم من منامك صـــــــاحي — واسأل إلهَكَ خـــــــــيرا
إليك مـــــولى المــــوالي — أمد كفــــــــيَ فقــــــــرا