
فيصل العْرايشي: الرجل الذي قتل التلفزيون..
عبد الله الدامون:
ماذا لو تم إنجاز مسلسل تلفزيوني مشوق حول فيصل العرايشي؟ أكيد أن هذا الرجل يستحق أكثر من مسلسل، وأكيد أنه يستحق أكثر من فيلم، وأكيد أنه يستحق أن تُسلّط عليه أضواء العام كلها لأنه “بطل” كبير.
العرايشي كان يقال عنه منذ سنوات إنه “الرجل الذي قتل التلفزيون”، وتبين الآن أنه لم يقتل التلفزيون فقط، بل أيضا كفنه وواراه التراب، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
العرايشي دائما في قلب كل القضايا، وهو يشبه تماما الأبطال الخارقين في المسلسلات المكسيكية والتركية. وعندما كان عبد الإله بنكيران رئيس الحكومة، فإنه كان يشتكي من العرايشي مثل طفل يشتكي من معلم قاس.. وعندما ذهب بنكيران وجاء العثماني، فإنه لم يستطع حتى الشكوى، وكثير من الوزراء والمسؤولين الكبار لا يجرؤون على تحريك أصبع أمامه.
حتى وزراء الاتصال المتعاقبين لم يستطيعوا الاقتراب من ضيعة العرايشي.. وهي ضيعة كبيرة، فيها ثماني قنوات بالتمام والكمال.. وتأثيرها لا يصل أنفها.
كأن العرايشي هو رئيس الحكومة وليس أحدا غيره. وهو لا يسمح لأحد بالاقتراب من ممكلته السعيدة، مملكة التلفزيون التي يبدو أنه تمت خصخصتها في اسمه، ومن يقترب من حدودها سيجد في انتظاره الكثير من المفاجآت.
العرايشي يستحق أن يكون فعلا بطلا لمسلسل من ألف حلقة لأنه رجل استثنائي في تلفزيون استثنائي في بلد استثنائي. إنه رجل يصنع الأغنياء بإشارة واحدة من يده. إنه يمنح خمسة ملايير لهذا، وثلاثة لذلك، ومليار ونصف لفلان، ومليارين لفرتلان، وكأنه يفرق أموال علي بابا التي وجدها في المغارة وليس أموال المغاربة التي تُقتطع من أرزاقهم.
لو أن في هذه البلاد كتاب سيناريو حقيقيين لبدؤوا من الآن كتابة سيناريو مطول جدا حول البطل الخارق فيصل العرايشي، الرجل المقدس الذي يبذّر أموال المغاربة ذات اليمين وذات الشمال ولا يستطيع أحد الاقتراب منه أو محاسبته.
العرايشي صار اليوم رمزا تلفزيونيا شهيرا، أكثر شهرة من أبطال الأفلام والمسلسلات الرديئة التي يبثها في تلفزيونه. إنه الرجل الذي لم يقتل التلفزيون فقط، بل قتل آمل المغاربة في إعلام حقيقي. إنه رجل تولى منصبه الحالي قبل أزيد من 12 سنة، وهو إلى اليوم لا يزال في نفس المكان، لأن المغرب لا يوجد فيه رجل واحد يمكن أن يتحمل مسؤولية التلفزيون غير فيصل العرايشي. إنه بساطة الرجل الملهم المبدع الخارق، إنه السوبرمان الذي خرق كل قواعد اللعب وصار شبيها بالحاكم المطلق.
يجلس المغاربة أمام التلفزيون ويتفرجون على سلسلات فكاهية أو حزينة أو أي شيء، تارة يضحكون وتارة يوشكون على البكاء، وهذا ما ينطبق عليه تمام الحكمة القائلة “ضحك حتى البكاء”، لأن كل تلك الملايير التي يتم تبذيرها على أعمال تلفزيونية تافهة، خرجت من جيوب المغاربة المساكين، الذين يتفرجون على ضياعها وهم لا يعرفون هل يضحكون أم يبكون.
والمثير أن العرايشي قال قبل بضعة أسابيع إنه أول من كتب السيتكومات في المغرب، وأن ما يبث حاليا في التلفزيون لا يرقى إلى الجودة التي يريدها. لكن الأخ فيصل نسي أن يضع بعض سيناريوهاته الثمينة في خدمة المخرجين، وأكثر من هذا فإنه ينسى الاعتذار عن مئات الملايير التي تم تبذيرها على أعمال تلفزيونية تافهة فنيا.
في بلدان العالم يوجد أغنياء وصلوا إلى ما هم عليه بطرق مختلفة، هناك الذين استغلوا عرق عمالهم، وهناك الذين اغتنوا بالمخدرات والممنوعات، وهناك المضاربين في البورصة، وهناك أغنياء الحرب ومحتكرو السلع، وهناك اللصوص ومختلسو الميزانيات، وهناك أصناف كثيرة، لكن المغرب يضم، بالإضافة إلى الأصناف السابق ذكرها، يضم صنفا آخر من أغنياء الصدفة، وهم أغنياء التلفزيون، أي الذين جمعوا الملايير في رمشة عين مقابل لا شيء. ملايير ذهبت سدى في أعمال فشلت في انتزاع ولو ابتسامة من فم الناس، ذهبت ملايير كثيرة في قنوات يجب أن يُفتح القضاء حولها تحقيقا جديا.
المغاربة سمعوا خلال العقود الماضية كلاما كثيرا عن أوجه الفساد، سمعوا عن العمولات والتهرب الضريبي ونهب الميزانيات واختلاس صناديق المؤسسات العمومية والخاصة، وإفراغ صناديق التقاعد والضمان الاجتماعي من آخر فلس، ودفع أبناك معروفة لحافة الإفلاس، وتقديم قروض ضخمة لمحظيين لا يرجعونها أبدا.. وأشياء كثيرة أخرى، لكنهم الآن يسمعون عن نوع جديد من الفساد، الفساد التلفزيوني… لكنه فساد لم يتم بعد اقتحام مغارته.. ونتمنى أن يتم ذلك قريبا.. قريبا جدا.