إني ذاهب إلى ربيسلايدر

تنويرُ فَهمِنَا لدينِنَا… تلكَ الجَبهَةُ المُؤجَّلَةُ

يكثُر هذه الأيام الحديثُ عن التحالفِ الدولي التي تشكَّل بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية لمحاربة “داعش” ووقفِ تمدده المتسارع في العراق وسوريا؛ مثلما يكثرُ الحديث عن الدول التي صنعت ومولت هذا التنظيم “الديني” المتشدد وعن أسباب انقلاب السحر على الساحر وخروج العفريت من قمقم التحكم، وفي هذا السياقِ تعددت الآراءُ والمقترحات بخصوص وسائل قطع الإمدادات العسكرية والتمويلية عن هذا “العفريت”، وسبل القضاء على هذه الظاهرة المتوحشة التي صارت تهدد العالم في قيمَه وإنسانيتِه.

وبتأمل ذاك الحديث السيِّد وتلك الآراء السائدِة في مختلف وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، والنظر في مختلف تصريحات ومخططات ومواقف الجهات المعنيةِ بمجابهة هذا الانفلاتِ، نسجل أن جُلَّ المقاربات السائدةِ تجنح، سراًّ أو علانيةً، إلى تغليبِ البعدين الأمني والسياسي على ما سواهما. وحين يطغى البعدان الأمني والسياسي في معالجة مثل هذه الظواهر، يصبح في حكم الأكيد أن الحلولَ ستكون ظرفية، تعالج النتائجَ لا الأسباب، وتقلِّم الفروعَ ولا تجتث الجذور، مما يجعل خوفنا مضاعفاً من أن يظلَّ العالمُ العربي الإسلامي مسرحَ صراعات وحروب وتصادمات، كلما قُلِّمتْ منها فروع نمت غيرُها هنا أوهناك، تحت هذا الاسم أو ذاك.

لذا أجدني، على غرار الكثيرين، لا أطمئِنّ لهذه الحلول العزلَى رغم أهميتها، ذلك أنها يجب أن تُسْبَق وتُواكَب وتُلحَقَ بمقاربةٍ متكاملةٍ، تتصدَّرُها معالجةٌ فكرية ومعرفية نقديةٍ جذرية ما زالت مؤجَّلةً؛ معالجة تطرح الأسئلة حول فهم الدين، وحدودِ العلاقةِ بينَ الدين والسياسة، وتحاول أن تقدم فهما تنويريا للإسلام يخلِّصُ عقائدَهُ وعباداتهِ وأخلاقَهَ من آثارِ الصراعات التاريخية البشرية التي ترفُد النزعات الطائفية والمذهبية اليوم، مثلما تخلّصه من الفهم الإكراهي للتدين وممَّا يحفلُ بهِ من شُحَن التكفير والكراهيةِ ومن عوائقِ اللاتاريخية واللاعقلانية واللارحمانية، والتي تجعلُ تديُّنَنا طقوسيا لا إيمانيا، أسطوريا لا روحانيا، طائفيا لا كونيا، عنيفا لا رحيما، مُناقِضا لمبادئ حقوق الإنسان وللثقافة الديمقراطية وللقيم الإنسية الكونية في الدين والحداثة معا، بدل أن يكون تديناً يُكَرِّمُ الإنسانَ ويقدس حياتَهُ ويَحتفي بعقله وروحهِ ويمجِّدُ حريتَهُ؛ وفي صدارتها حريةُ التفكير والتعبير والاعتقاد. وهو ما يقتضي إعادةَ – واستعادةَ- بناء فهم الدين حول مركزية الإنسان وحُرمتِه باعتباره خليفةَ الله في الأرض، والعمل على إبراز روح الإسلام الرحموتيةِ ومقاصديتهِ القائمة على قيم التكريم والعدل والرحمة والحرية، مع ضرورةِ تفكيكِ مُستندَاتِ الاستبدادِ في المرجعية التراثية الفقهيةِ وترشيد فهمِ حضورِ “مفهوم الجهادِ” في النسق الإسلاميّ بما لا يُقصِي أو يمحو طاقته الروحية والتربوية من جهة، وبما لا يُفْضِي إلى الشطط في توظيفه والتجني في استعماله من جهة ثانية.

مثل هذا الأفق التنويري يقتضي اشتغالا علميا جادا وعميقا بل ومصيريا، لم يع كثيرٌ من علمائنا ومثقفينا بعدُ حتميتَهُ، ولم يُدركوا أن السيرَ فيه بالحزم والقوة اللازمين أمر لازب وضروريّ في أي إصلاح لفهم الدين في عالم اليوم. لكن، هل تؤهِّل مؤسساتنا العلمية والتعليمية الراهنة للقيام بمثل هذا الدور؟ وهل تسمحُ الأطر الاجتماعية للمعرفة بمثل هذا الإصلاح؟ سؤالان يطوقهما ارتياب كثيف. من أجل هذا نرى أن انخراط جملة من الدول العربية الإسلامية في الحرب على داعش- علاوة عن خطر صورتِه السياسية والعسكرية الجارية وما تخترقه من أجندات متناقضة- هو إهدار للمال والجهد والأرواح، إذا لم يأخذ بالإصلاح المعرفي والفكري والاجتماعي والسياسي والاقتصادي، واقتصر على محاربة النتائج فيما يُغضي عن أسبابها؛ بل ويستمر في احتضانِ بذورها التي يمكن أن تفرزَ ما هو أخطر من داعش متى توافرت التربةُ الملائمةُ لنمو تلك البذور، تربةٌ سمادُها الجهل والفقر والظلمُ والاستبداد والإحباط واليأس.

وإذا محصنا النظرَ في بعضِ ما تقتضيه المعالجةُ الفكرية الجذريةُ المؤجَّلةُ، وهيَ المعالجةُ الأخطرُ والأصعب كما يشهدُ على ذلكَ التاريخُ، برزَ لنا حجمُ وهَوْلُ العملِ النقدي الذي ينتظرُ أهل الفكرِ والعلم؛ عمل ترجعُ خطورتهُ إلى صعوبة التغيير الفكري والثقافي ضمن أطر اجتماعية متكلسة ومتجمدة على التقليدانية أكانت قبلتُها ماضي “الذات” (السلف) أم حاضر “الآخر” (الغرب)، كما ترجعُ تلك الصعوبةُ إلى جدليةِ السياسي والديني في واقعِ مشروعيات ومشاريع الحُكم في جل الدول الإسلامية منذ “استقلالها”. وتتوقف تلك المعالجةُ أيضاً على مدى قدرةِ العلماء على معاودة النظر في جمٍّ من “الحقائق” السوسيولوجية المنتشرِة باسم الدين، ومدى جرأتهم على نزع القداسةِ عن كثير من تلك “الحقائق”، والتي تشكِّل السند المرجعيّ للعديد من الاختيارات المُدانَة اليومَ في سلوكاتِ الجماعات التكفيرية. أفكر هنا مثلا في ثنائيات تَحْكمُ العقل السلفي بجميع أطيافه مثل: دار الكفر/ دار الإسلام؛ دار الحرب/ دار السلم؛ البراء/ الولاء، تعطيل الشريعة/ تطبيق الشريعة؛ حقوق الإنسان/ حقوق الله….فضلاً عن شعاراتٍ موهِمَةٍ ومُضلِّلة تقتضي إعادة تفكيك وفهم مثل: “الإسلام دين ودنيا”؛ “الإسلام دين ودولة”؛ “الإسلام هو الحل”…و كذا عن مُسَلّماتٍ مذهبية ومفاهيمَ فقهية وآلياتٍ قرائية مازالت تحكُم تعاملنا مع نصوص الوحي الإلهي، دونَ أن نستطيع التمييزَ الدقيقَ فيها بين ما يتصلُ بالوحي المتعالي الثابت الخالد، وبين ما يتعلّقُ بالفهم البشري التاريخي المتحول المتجدد.

إنها جبهةٌ حقيقية تحفها المخاطر والمحاذير من سائر الأنحاء، لكنها مصيرية وحتمية لاستئصال الجذور الفكريةِ للغلو والتكفير الذي يتهددنا في ديننا ودنيانا. مواجهة تستلزمُ شرطا رئيسا هو نشر المعرفة العلمية والتنويرية في مجتمعاتنا، مثلما تستلزمُ أن تتكاملَ، كما أشرنا سابقاً، مع المعالجات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؛ مثل تمكين مختلف الفئات من تكافؤ فرص العيش الكريم وشروطهِ من سكن وصحة وتعليم وترفيه…إلخ؛ والعمل على نشر الثقافة الديموقراطية من حيث هي قبول بالتعدد، وإقرار بشرعية الاختلاف، وتوافق حول التداول السلمي على السلطة، وإجماع حول آليات لتدبير تنوع المجتمع واختلافاته، والعمل على خلق تكافؤ الفرص الاقتصادية بين سائر المكونات الاجتماعية وتجفيف منابع الفقر والعنف والظلم والحقد على المجتمع… دون هذه المقاربةِ التكاملية بين إصلاح فهم الدين وإصلاح الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في العالم العربي الإسلامي، ستظل المعالجةُ الأمنية معطوبةً منقوصةً؛ بل إهدارا للوقتِ والجهد والمالِ، قد تحدُّ جزئيا من التدعيشِ، أو تؤجل توسُّعهُ…لكنها أبدا لن تقضي عليه، إذ السبيلُ الوحيدةُ لذلك هي المقاربةُ التكامليةُ الشاملة؛ تتقدمها المعالجة الفكرية التنويريةُ النقدية الجذرية لفهمنا السقيم للدين، ذاك الفهم الذي ما يفتأ يُحَوِّل الإسلامَ من منبع سكينة ورأفة ورحمة للإنسانية جمعاء، إلى مصدر توجسٍ وفزع ورعب، القرآن الكريم والمنهاجُ النبوي المحمَّدي منه براء.

الاختلافُ التكرارَ؛ إذ بهذه الملامح فقط يضمنُ هذا العودُ أبديةَ النصِّ وخلودَه، أي يضمنُ لهُ، بشكل لا نهائي، تَناسُلَ “عَجائِبِه” وتعدد “أَوجُهِه”، مما يعني امتدادَ تعاليه في مجرى التاريخ.

محمد التهامي الحراق

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عشرين + خمسة عشر =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض