إني ذاهب إلى ربيسلايدر

أسئلةٌ منسيةً في “فلسفة الدين”

في لقاء له الألق والعمقُ ورحابة الاختلاف الذي به المعرفةُ تَحيا، وفي حضن “صالون جدل للثقافة” بالرباط، كانت عشيةُ السبت 18-01-2014م، فضاءً استثنائيا للتأمل والسفر المعرفيين على متن سفينة السؤال، رباناها د. عبد الله السيد ولد باه والأستاذ الباحث يونس قنديل. اتخذ اللقاء السفرُ نعتَ حوارٍ أدارهُ بلباقةٍ ورصانةٍ د. الطيب بوعزة، حوارٍ اتخذ وجهة ثنائية بين المتدخلَين ثم وجهة متعددة بينهما وبين الحضور. وهنا يلزمني أن أدلي بشهادةٍ أعتبِرُ أن الواجبَ الأخلاقي والمعرفي يلزماني بعدم كتمانها، مفادُها أن من أهم ما يميزُ أنشطة ولقاءات مؤسسة “مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث”، هو الجديةُ والصرامةُ المعرفيةُ، وإنِّي أؤكد أن هاتين المَكرُمتينِ اللازمتين لكل سعيٍ علمي أو طلب للمعرفةِ أو سفر تشاركي نحو الحقيقةِ، أصبحتا نادرتين، فقد حضرت لجمٍّ من اللقاءات “العلمية” في الجامعةِ وغيرها، إما مُشاركا أو مُنظِّما أو مُتابِعا، وكان ما يُغيظني في صمتٍ دوما هو طغيانُ المجاملةِ والتجاوز عن الأخطاءِ ووهم “حفظ المقامات” على حساب “الجدية والصرامة المعرفية”، وهو ما أفقدَ كثيراً من اللقاءات “العلمية” قدرتَها على الابتكارِ والتحفيز على الجديد وتطوير البحث. وهذا ما جعل بعض الأسماء العلمية الجادةِ تقعُ أسيرةَ غربة مُحَيِّرَةٍ، لأنها صارت استثناءاتٍ ضمن الرداءةِ السائدةِ، والتي تثمِرُ رداءةً في التكوين والأخلاقِ هما من أزمةِ واقعنا العلمي والتعليمي اليوم.

ذاكَ واحِدٌ من سر البهجةِ التي تستبدُّ بدخيلتي كلما حضرتُ في نشاط من أنشطة “مؤمنون بلا حدود”، على غرار المائدة المعرفية ليوم السبت حول “فلسفة الدين”. ويكفي لتأكيدِ نسيان أسئلةِ هذا الموضوع الدقيق والعميق أن الجامعةَ المغربيةِ، حسب علمي، لم يسبِق أن عقدت ندوة كبرى بخصوصه، بل إن الدينَ منسيٌّ في بعده الفلسفي في شُعَب الفلسفةِ، مثلما أن شُعَب الدراسات الإسلامية قد ورثت عن عصور الانحطاط تلك النظرةَ المتوجِّسةَ من الفلسفةِ، وقل الشأنَ ذاتهُ في مختلف المعاهد الدينية وكليات الشريعة وأصول الدين إلا من استثناءاتٍ فرديةٍ لا تأثير كبيرَ لها في النسق التعليمي الديني العام. كل هذه الاعتبارات تُجلِّي أهميةََ ما طرحته أمسيةُ فلسفة الدين في “صالون جدل للثقافة”، وقد تبدى نسيانُ أسئلةِ هذا الموضوع في النقاش الذي أثاره اصطلاح “فلسفة الدين” نفسُهُ، والذي ظل حاضرا بل ومفتوحا خلالَ كل أطوارِ اللقاء.

طرح د. السيد ولد باه، بإيجازٍ اقتضاهُ الوقتُ أبرزَ الاتجاهات المعاصرةِ في فلسفةِ الدين، وكيفَ يُعادُ تناولُ الدين اليوم فلسفيا من خلال عودة “المتافيزيقا” في مرحلة ما بعد الحداثة؛ ذلك أن “الميتافيزيقا التحليلية” مثلا ترى أن المعقوليةََ العلميةَ غير كافية لتفسير الواقع، من هنا كان الأفق الإبستيمولوجي، حسبها، محتاجاً إلى أفق أنطولوجي يسندهُ. على أن هذه الميتافيزيقا ليست استرجاعا للميتافيزيقا القديمة بل إعادة نظر فيها. وقد توقف د. ولد باه عند اتجاهين كبيرين للميتافيزيقا التحليليةِ الأول هو اتجاه “إحياء اللاهوت الطبيعي” القائم على إعادة تحليل الأدلة اللاهوتية على وجود الله؛ سواء منها الأدلة القبلية أوالبعدية أوالغائية والعمل على تقوتيها وتغذيتها بقوة الحجة التي يقوم عليها اللاهوتُ الطبيعي، وهو ما جعل من منظور هذا الاتجاه التحليلي منظورا عقلانيا يُؤسِّس معرفتَه الدينية على برهانية عقلانية. أما الاتجاه الثاني فهو المنعوتُ بـ”اِبستيمولوجيا المُراجَعَة” ويتأسسُ على معتقَدات دينيةٍ قاعدية إدراكية وتذكرية، ليس من المطلوب تقديمُ أدلة برهانية عليها، وهو اتجاه تأويلي يعتبر أن الحبَّ سابقٌ على المعرفة، بمعنى أن التجربة الدينية سابقةٌ على المعقوليةِ المنطقية، وهذا الاتجاه يذهب إلى حد رفض الميتافزيقا نفسِها، ويسعى إلى إعادة التفكير في التجربة الدينية في أفقِ ما بعد الميتافزيقا، بل يذهبُ إلى أن الميتافيزقا قد انهارت بعد أن كانت منافِسةً للدين. وقد مثل السيد ولد باه للاتجاهين بعدة أسماء وكتابات وأسئلة وقضايا. ولم يفت المحاضرَ أن يتناول ضمورَ سؤال فلسفة الدين والكتابات فيهما في العالم العربي بخلاف ما يعرفهُ هذا السؤال اليومَ من انتعاش في بعض الكتابات الإسلامية الإيرانية والتركية، وقد اعتبر أن الكتابين الوحيدين ضمن هذا الأفق في فترتنا الحديثة والمعاصرة هما كتابُ محمد إقبال “تجديد الفكر الديني في الإسلام” والذي شكل حدثا في وقته، وكتاب طه عبد الرحمن “روح الدين”. لستُ هنا بصدد تلخيص مداخلة الأستاذ ولد باه، فهي من التنوع والغزارة وفيض الإشارة ما يجعلها عصيةً عن التلخيص في أسطر معدودة ومحدودة، وإنما هي أفكارٌ من جملةُ ما علقَ في ذهني من مداخلةٍ شعرتُ بثرائها لقيمةِ ما تطرحهُ من قضايا وأسئلةٍ منسية في ظل استئساد الإيديولوجي على المعرفي في نسق معرفتنا بالدين اليوم.

الأستاذ يونس قنديل زوبعَ ذهني بجملةِ طروحاتٍ كانت أكثر انخراطا في واقع التدين في عالمنا الإسلامي اليوم، فقد طرح في البدء سؤالا مفتاحا: ما دواعي عودة فلسفة الدين؟ وما الذي عاد في عالمنا العرب أهو الدينُ أم الدينيّ؟ أي هل نحن أمام “عودة الدينِ” من حيث هو معنى روحي وقيم متصلةٌ بالدين أم نحن أمام “عودة الديني” بما هي عودة للطقوسي والشعائري واللاهوتي في الدين؟ وقد أكد على أمر رئيس عند مقارنة هذه العودة في العالمين الإسلامي والغربي، حيث سجَّلَ أن عودة سؤال الدين في الأوساط الفلسفية الغربية ليست عودة للسؤال الديني بالمعنى الطقوسي واللاهوتي، بل عودة للسؤال الإيماني، فالدينُ يُستحضَر اليوم في الغرب من أجل الاستلهام الروحي والقيمي والأخلاقي لا من أجل التأطير التشريعي للمجتمع، والذي حسمتْ فيه ومعه الحداثةُ العَلمانية. من هنا فالدينُ حين يُعاد التفكير فيه اليوم في الغرب فباعتباره خَزَّاناً للمعنى. وهو ما يُخالفُ عودة الدينيّ في المجتمعات العربية والإسلامية بما هي عودةٌ للشعائري والطقوسي المتشكّل في قلب المجتمع، والذي يؤطره عقلٌ فقهي مأزوم، خلق تباينا بين المصلحةِ والدين، بحيث لم يعد هذا الأخيرُ يسند ما هو حياتي واجتماعي. وهذا ما جعل الأستاذ قنديل يدعو إلى ضرورةِ إعادة تجسير العلاقة التي عصف بها العقل الفقهي بين “الإيمان” و”العمل الصالح”؛ ذلك أن الإنسان، حسبَ يونس قنديل، فقدَ إيمانهُ بقدرتهِ على الإيمان خصوصا أمام السُّعار الاستهلاكي الذي أصبح يخترق الحياة المعاصرةَ، الأمر الذي يدعو إلى استحضار الفكرة الإيمانية بما هي بحث عن المعنى لا عودة الديني بصراعاته وتنابذاته. على أن تجسيرَ العلاقة بين “الإيمان” و”العمل الصالح”، بهذا الاعتبار، ليس سوى تثمير الفكرة الإيمانية على المستوى الأخلاقي، وهذا يقتضي وجود أصوات معرفية تدافع عن السماء وتستدمج آفاق الماضي والراهن لتطرح أسئلة الوجود والإنسان والمعنى والإيمان والقيم بعيدا عن الصخب الإيديولوجي في عالمنا العربي والذي يجعل الدين اليوم في مجتمعنا مُتَّهَما بامتياز.

يَلْزَمُنَا إعادةُ التأملِ في مفهوم الاستخلاف حسبَ الأستاذ قنديل باعتبار أن الغايةََ من خلق الإنسان ليس التعبد وإلا كان الملائكةُ أولى بهذه الوظيفة، وإنما الغايةُ خلافةُ الله في الأرض بما تعني من إعمارٍ وتكريمٍ للإنسان، خصوصا وأنه لم يُخلَقْ للتكفير عن خطيئة أصليةٍ كما هو في اللاهوت المسيحي، بل خُلقَ لحمل أمانةِ السر الإلهي في الأرض، مما يقتضي إعادةَ الوصل بين الدين والمصلحة، وكذا إعادةَ الوصل بين الفكرة الإيمانية والأخلاقِ في تعامل الإنسان مع وجوده، واستحضارَ الله سبحانهُ ليس كإله مُنتفِع من عبادتنا أو متضرِّر بانعدامها، فهو غنيٌّ عن العالمين، بل كضامنٍ للقيم ولأخلاق بين المُستخلَفين. فيما كانت آخر دعوة للأستاذ السيد ولد باه هي ضرورةُ تحويل الإله في فهمنا من “إلهٍ للملة” إلى “إلهٍ كوني”، وذلك عبر استكشاف روحانيةِ الدين وعقلنةِ تجربته، وهنا أشار إلى أن المسار الصوفيّ في الإسلام، خصوصا في قممه العرفانية الكبرى، كفيلٌ بالإسهام في هذا الأفق.

وإجمالاً فإن هذا السفرَ المعرفي حول “فلسفةِ الدين”، والذي عرف نقاشا غنيا وثريا، قد أبرز مزيدَ حاجتنا ومسيسَها لطرح الأسئلة المنسيةِ في فهم ديننا والوقوفِ عند أسبابِ ضمور وَهَجِ الروحانية في مجتمعاتنا مع تغول في الشعائرية الشكلية والطقوسية العقيمة من حيثُ المعنى والأخلاق معا، كما طرحَ من طرف خفي جدلَ الخاص والكوني في تفكيرنا اليوم في السؤال الديني. ذاك رهانٌ آخر ينتظر من فلاسفتنا المسلمين انتشالَهُ من نسيان مكين.

محمد التهامي الحراق

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

4 × 4 =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض