آراء ودراساتسلايدر

حقيقة اللاحقيقة

خلق الله الإنسان فأحسن خلقه وتصويره، ووهب لكل مهجة ولبا وأناط له مهمة التدبر والتفكر في الكون لعل ذلك يوصل لحقيقة الوجود والمآل المسطر باللوح المحفوظ.
لكن قبيل تفعيل آلية التدبر،يتحتم على كل فرد أن يتزود بالقليل من العلم كحد أدنى للخوض في أمر معين ، حيث تتعدد مشارب الأفراد ومناهلهم، فمنهم من يتجه لدراسة العلوم الاجتماعية أو الشرعية ومنهم من يدرس العلوم الحقة وهكذا…
فقد تجد عالما أو باحثا أفنى عمره في دراسة ظاهرة أو مسألة واحدة وما وفاها حقها، وقد لا يلم بكل جوانبها، وقد يحول بينه وبينها نهاية الأمد، وقد تبذل مجهودات عظيمة تستغرق عقود في مسألة معينة قصد بلوغ حقيقتها وفهم كنهها دون أن يتم ذلك.
كل ذلك يبذل للوصول لما يسمى ب”الحقيقة” ، أي حقيقة الأمور ، هذا المفهوم الذي أعده من أصعب المفاهيم وأكثرها حربائية وخبث ، لما يمكن أن يفعل به وله .
إن مفهوم الحقيقة من المفاهيم الجدلية الصعبة التحقق على المستوى الواقعي، وهو أكثر المفاهيم وهمية وزيف على مر التاريخ، لأني لم أر قط وهم كوهم تملك الحقيقة، أو كما قال “بليز باسكال” : “مرض الإنسان الطبيعي إيمانه أنه يمتلك الحقيقة”.
يقال أن الحقيقة هي مطابقة التصور والفكر للواقع ، أو أنها عكس الكذب والخداع والتيه، و يرى البعض أن الحقيقة شيء بسيط ، لكن تكمن الصعوبة في التقاطها وكشفها لما قد تحمله من حمولات تضرب بعض المصالح الضيقة لجهة مقابل أخرى ، ومنهم من يعتبر أن الحقيقة طموح ليس في متناول الجميع.
يمكن تصور الحقيقة كلوحة تجريدية، تكتسي بالغموض وتولد الحيرة، لكل شخص نظرة معينة وتفسير لكنهها، وجدت كي لا تفهم، وبسطت كي لا يتفق على ماهيتها الجميع.
فالحقيقة الدينية مثلا تختلف بين الديانات والعقائد ، فكل طائفة تدعي أن دينها هو الحق وأنها تحوز الصواب ، ربما قد نجد من يعبد الجمادات لكنه يجزم أن تلك هي حقيقة الإله والتدين في نظره ، ونحن نعتقد أن الدين عند الله الإسلام وما سوى ذلك فهو مجرد غي وضلال ، وحتى ضمن الدين الواحد نجد طوائف متعددة ومذاهب مختلفة المشارب والتوجهات…
أما من الناحية الفلسفية فالحقيقة كمفهوم عرف نقاشا واسعا وصراعا فكريا مهما بين مختلف الاتجاهات ، ذلك أن هناك أطروحات تؤكد أن الحقيقة هي واقع أنطولوجي معقول يوجد خلف المدارك الحسية ، إلا أن هذا الواقع في اعتقاد أفلاطون مفارق للعالم الحسي ،وهو في اعتقاد أرسطو متصل به ، أما ديكارت فيختلف عن الفيلسوفين ، لأن الحقيقة في نظره غير موجودة في الواقع ، لأنها بناء عقلي يتم من خلال عملية الشك ، هكذا يكون الفكر هو الذي يحتضن الحقيقة ، ولا وجود لحقيقة خارج الفكر.
أما مارتن هيدجر تساءل حول الكيفية التي يمكن أن تكون بها الحقيقة استنساخا للواقع وترجمة أمينة له، فالتطابق لا يمكن أن يكون إلا بين شيئين متماثلين في الشكل والطبيعة ، فكيف يمكن أن يكون الفكر مطابقا للواقع وهما مختلفان؟
لذا يرى أن الحقيقة هي انفتاح على الواقع واستعداد لاستقباله في الصورة التي ينكشف بها أمام الذات ، وهي كذلك تعبير حر للذات في تعاملها مع الواقع ، أو كما قال هيدجر ” الحقيقة هي الحرية” من خلال المقارنة بين التمثلات الفلسفية المعروضة.
ولعل آراء الناس متباينة وكثيرة،ومن ثم لزم وجود آراء باطلة ، ونظرا لأن الناس تتشبث بالمعتقدات الباطلة كتشبثها بالمعتقدات السليمة ، فإن من الصعب التمييز بين ما هو صائب وما هو خاطئ.
هنا نتسائل ، أي المعايير نعتمد وأي المقاييس نتبع لفك شيفرة الحقيقة ؟ وأي الحقائق أحق أن تتبع إن بدا التعارض بينها ، وضيقت المصالح من جدواها وقيمتها وغيبت عن العامة ؟
من زاوية أخرى يمكن التساؤل كذلك ، هل نحن تائهون عن الحقيقة إلى هذا الحد ؟ أم أنها أمام أعيننا ؟أو ربما خلفنا أو على حواشينا ونحن نتجاهلها؟
لعل قصة الفيلسوف “ديوجين” أجل مثال في هذا الاتجاه ، ذلك أنه خرج ذات يوم يحمل مصباحا في واضحة النهار، قاصدا السوق حيث عامة الناس منشغلون بحياتهم ، وهو يردد :” أنا أبحث عن الحقيقة” ، وهنا نتساءل هل نحتاج فعلا لمصباح في واضحة النهار للبحث عن الحقيقة؟ حيث كل شيء واضح وجلي ، وهل يمكن أن نتيه عن الحقيقة إلى هذا الحد؟ أليست الحقيقة هي ما نراه؟
أو كما قال “توماس : “الحقيقة موجودة على الأرض لكن لا أحد يجرؤ على التقاطها، الحقيقة ممدّدة في الشارع لا أحد يلتقطها”.
بما أن الجهل درجات والعلم درجات، فمن الجهل مطلق و نسبي، لكن المطلق في العلم أنه نسبي لا يمكن أن نعلم كل شيء ولا نخبر كل شيء، والقطع في المسألة ما قاله عز وجل: “وفوق كل ذي علم عليم”.

توقف قليلا وتذكر بعضا من الحقائق التي تعرفها ، أعد فيها النظر وابحث جيدا وأصل كل مسألة ، بعد ذلك ستجد ّأن عددا غير هين من أفكارك كانت خاطئة ، إما تلقائيا أو على سبيل التلقي.
من زاوية أخرى ، لعل الجهل ببعض الأمور أزكى وأولى من معرفتها ، نستدل على ذلك بقوله عز وجل في محكم تنزيله: “ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ”، ولعل ابن كثير شرح هذه الآية في تفسيره فيرجع لها لتبيان حقيقة كنه الاستدلال بها هنا ما دمنا نتحدث عن الحقيقة.
أو لعل الجهل بالأمور نعمة محسود صاحبها لعيشه في نعيم الجهل ، ولو انكشفت له الأمور لشقا بها ، ولعل أحيانا إدعاء الجهل حكمة ، أو لعل قول الحقيقة عمل شاق تقطع به الرقاب ، حيث قال “جورج أورويل : “في وقت الخداع العالمي يصبح قول الحقيقة عملاً ثوريّا”.
وأجل مثال على قولي بحربائية الحقيقة ، ما نشاهده بالإعلام ، حيث أن الواقعة الواحدة تحتمل عدة قراءات وتحليلات بحسب زاوية النظر،فالإعلام الرسمي قد يناقش الفكرة من جانب، ويتغافل عن جوانب عدة قصد تقويض الرأي العام وتحوير حقيقة الأمور… انظر لازدواجية الخطاب والمعايير في الطرح والمعالجة، وانظر للبروباكاندا والتجييش الإعلامي … انظر لحال دول مجاورة لازالت تتصارع على حقيقة أمورها الداخلية، هل هي ثورة أم انقلاب، غزو أم تدخل لفك الحصر،تفكك أم حداثة…
للصحافة طبيعة اختزالية،فهي تبخر ما يقع تحت أيديها من أخبار ،ثم تكثفه،ثم تقطع منه،ثم تصيغه وفق ما يلائم مصالح ملاكها وتوجهاتهم السياسية والاقتصادية، ثم تبسطه بحيث تكون قراءة الموضوع مناسبة للسواد الأعظم من قرائها ،ثم تضع له عناوين عريضة تضخ فيها الكثير من الانفعالات.
وهو ما يقول به “توماس جيفيرسون”بقوله: “لا شيء مما نراه فى الصحف الآن يمكن تصديقه ، الحقيقة نفسها أصبحت مشوهة بوضعها فى تلك السيارة الملوثة” .
آخر مثال نورده لتبيان جدلية الحقيقة، هو ما يواجه القضاء في معرض بثه في المنازعات، حيث يتجاذب نظر القاضي حقيقتان، حقيقة واقعية وحقيقة قضائية، بحيث يرتبط مفهوم الحقيقة القضائية بالبحث عن الدليل الناقل للواقع أمام القضاء بمناسبة قيام نزاع قضائي بين الخصوم داخل فترة زمنية محددة يلجؤون خلالها إلى استعمال مختلف أنواع الوسائل للدفاع عما يعتقدونه حقا لهم، أما الحقيقة الواقعية فهي تلك المطابقة للواقع والمعلومة لدى الخصوم والثابتة بخلدهم .
لكن ولتقييد مجال الإثبات بحدود وآليات قانونية ضيقة تارة أو عدم قدرة الخصوم على إثبات واقعة معينة ، أو بسب التدليس والتزوير مثلا ،تصبح الحقيقة القضائية غير متفقة مع الحقيقة الواقعية ، بل وكثيرا ما تنفرج مسافة بين الحقيقتين، وتجافي إحداهما الأخرى ،وفي هذا ما يجعل الحقيقة القضائية في بعض الحالات منعزلة عن الواقع ، بل وبعيدة عن الحق وأقرب لأن تكون مصطلحا فنيا منه إلى حقيقة واقعية.
كل ما سبق مجرد إشارات وأمثلة مبسطة للحقيقة كمفهوم وكقيمة وغاية يسعى خلفها الناس، ونشير هنا لما قاله ديكارت في مقاله المنهج ، حيث قال :” إنه من الأولى عدم البحث عن الحقيقة بصدد أي شيء كان ،بدل البحث عن عنها دون منهج”.
والمنهج هو قواعد البحث العلمي المؤدية إلى الحقيقة بواسطة العقل لا الرأي ،لأن الرأي في المعرفة العلمية عائق ، لكونه لا يفكر، وهذا يقتضي أولا هدمه وتجاوزه، لنحدد ما نبحث عنه والمنهج المتبع للبحث فيه.
وكل من يتبع المنهج حسب “ديكارت” سيمتلك الحقيقة ، لأن المنهج هو تقنية الحقيقة التي يمكن أن يستعملها الجميع بأمان وثقة، واقتصر “ديكارت” على أربعة قواعد،الأولى منها مستندة إلى مبدأ الحدس ، والثلاث الأخيرة مستندة إلى مبدأ الاستنتاج،وهي على التوالي:البداهة،التحليل،التركيب والمراجعة.
نخلص للقول أن مفهوم “الحقيقة” مفهوم مستباح أمره، متناقض طرحه،ومستشكل ضبطه للأسباب التي بيناها سالفا ، ما يضعنا أمام الوهم و اللاحقيقة المطلقة والتيه، مادام مفهوم الحقيقة غير متفق عليه ، لكن هذا لا يجب أن يثبط فينا ملكة التدبر، أو أن نسلم ببديهيات الأمور، وبالقول باستحكام الجهل ،وبتفويض إعمال العقل للغير، حيث قال “خوسيه سيراماغو” :”لا أعرف ما الخطوات التي سأمشيها ،لا أعرف ما نوع الحقيقة التي أبحث عنها ، أعرف فقط أن عدم معرفتها أمر لا يحتمل بالنسبة لي”، وعليه فالحقيقة المطلقة بالنسبة لي أنه لا وجود لحقيقة مطلقة .
محمد الغالمي
مدون مغربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اثنان × ثلاثة =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض