سلايدرما وراء الخبر

الطب النفسي بالمغرب…واقع هش محتاج إلى ثورة عميقة

محمد التويجر

أي سبيل لرصد درجة تأثر نفسية المواطن المغربي بالأجواء الاستثنائية الناجمة عن فيروس كورونا ؟
ولماذا لم نلمس تحركات ميدانية لذوي الاختصاص، قصد تقييم الوضع وضمان مواكبة نفسية لمن هم في حاجة إلى ذلك، بخاصة وأن ضيفنا الثقيل غير المرغوب فيه قارب إكمال شهره الرابع بيننا، ومصر على مواصلة فرض سطوته على الجميع؟
لا يختلف اثنان على نجاعة الخطة الاستباقية التي واجهت بها السلطات المختصة الوباء منذ أيام بروزه الأولى، مستنيرة بالتدبير الحكيم لقائد المعركة جلالة الملك محمد السادس…تدبير لامس مناحي شتى لجعل حدود المملكة مستعصية على الفيروس الغازي. في استحضار موصول لأهمية البعدين الاقتصادي والاجتماعي في التخفيف من وطأة الأزمة، وتحسيس المواطن بالأمان، وأن هناك حماة ساهرين على سلامته، موفرين له الحد الأدنى من حاجباته.
منذ بدء المعركة، ساهم الإعلام بمختلف أطيافه في حملة التحسيس بخطورة الوباء، والتعريف بسبل الوقاية منه والحد من انتشاره، وتسليط الضوء على تحركات الدولة لغاية دعم الفئات الاجتماعية الهشة، وتلك التي وجدت نفسها محرومة من مزاولة أنشطتها المعتادة. لكن ما يعاب على هذه الوسائل ومدبري الحملة عامة عدم إيلاء المواكبة النفسية الأهمية التي تستحقها في مثل هذه الظرفية الاستثنائية، حيث يخلص المرء بدون أدنى عناء إلى أن عدد البرامج المخصصة لهذا الجانب لا تتجاوز رؤوس الأصابع.
إن هذا النقص نتاج طبيعي لتعاملنا المعتاد مع الصحة النفسية، ونظرتنا للذين يعانون من اضطرابات ومشاكل تدخل في هذه الخانة، رغم أن أغلبية الدراسات المتخصصة تؤكد أن الغالبية العظمى من بني البشر محتاجة على الدوام إلى مصاحبة نفسية، تيسر الخروج من أوضاع طارئة ، قد تزيد استفحالا وتأزما إذا ما تم تجاهلها أو تأخرت معالجتها .
وما يعكس أن ورش الطب النفسي بالمغرب محتاج إلى دفعة جريئة تمكنه من تذويب البون الشاسع الذي يفصله عن باقي التخصصات، ما حفل به تدخل وزير الصحة السابق أنس الدكالي قبل عامين بمجلس النواب من أرقام ذات دلالة عميقة . فالمسؤول المذكور أوضح أن 9600000 مغربي، من الذين تفوق أعمارهم 15 عاما، ضحايا للأمراض أمراض نفسية ، 26% منهم يعانون من الاكتئاب، و9% من اضطرابات القلق، و5% من اضطرابات ذهنية، و1% من الفصام (السكيزوفرينيا).
وحتى تتضح الصورة بجلاء، نستعين بأرقام مماثلة صادرة على وزارة القطاع تقدر الميزانية المخصصة لأدوية الصحة النفسية بالمغرب بقرابة 90 مليون درهم (6% من ميزانية الأدوية)، وأن عدد أسرة الاستشفاء المخصصة للمرضى النفسيين يقل عن 2400 سريرا. كما أن عدد الأطباء النفسيين المشتغلين في القطاعين العام والخاص لا يتجاوز 300 طبيب، أما الحديث عن أولئك المتخصصين في علاج الأطفال، فكمن يبحث عن إبرة بين حبات رمال الصحراء.
في ظل هذا الانحسار، والتعاطي مع الأمراض النفسية من منظور أنها إحدى “الطابوهات” التي يفضل الكثيرون التغاضي عنها، وتفادي سبر أغوارها، وكذا كلفة جلسات العلاج الباهظة المتميزة بطول مدتها، نجد أن القطاع محتاج إلى خلخلة حقيقية من جذوره، أملا في انبلاج عهد جديد .
إن عدم إعطاء المصاحبة النفسية الأهمية التي تقتضيها في زمن كورونا نتاج لهذا العجز الذي وسم على الدوام التعاطي مع تخصص له قيمته، ودوره في بلورة مواطن سوي، قادر على مجابهة ما تشهده الحياة اليومية من طوارئ وأحداث، وتمكينه من اكتساب مناعة جلية اتجاه مختلف أشكال الاضطراب من توتر وقلق واكتئاب، ومن ثمة تفادي التراكمات التي تقود إلى نهايات تراجيدية تبلغ حد الانتحار، الذي ارتفع مؤشره بشكل ملحوظ عبر العالم أجمع ، تزامنا مع وباء كورونا، وما سيتمخض عنها في الآن والمآل من آثار عميقة، بخاصة لدى الأطفال الذين لم يعتادوا البقاء طيلة اليوم محتجزين بين أربعة جدران، وكذا العاملين في الخطوط الأمامية من رجال أمن وأطباء وممرضين ووقاية مدنية نتيجة خوفهم المركب من أن يصابوا بالعدوى.
لم نلمس على أرض الواقع حملات إعلامية للمصاحبة النفسية لجعل المواطنين قادرين على الاستئناس مع العزل الاجتماعي، وما يترتب عنه من وحدة وقلق وتوتر، وبطالة وعسر مالي، وإقناعهم بأن التخفيف من وطأة الأزمة رهين بدرجة قدرتهم على التعايش اليومي مع المستجد، وبقائهم في اتصال دائم مع الأصدقاء والعائلات، بفضل ما توفره شبكة الإنترنت من خدمات، وشَغْل النفس بالهوايات، والقراءة، ومشاهدة الأفلام، والقيام بأعمال صيانة منزلية، وممارسة أنشطة بدنية، والحفاظ على الهدوء النفسي، عبر القيام بأنشطة مساعدة من عبادة وتأمل، والاحتفاظ بنبرة التفاؤل، واستشراف غذ أفضل يقود صوب العودة نحو الحياة المعتادة السائدة قبل الفيروس.
شددنا غير ما مرة على أن مغرب ما بعد كورونا يجب أن يكون مخالفا لما قبلها، من حيث طبيعة القيم واستراتيجيات التدبير، وتحديد القطاعات التي يجب أن تحظى بالأولوية. والإجماع حاصل هنا بأن الصحة والتعليم متمركزان في قمة الهرم، إذ يجب أن يحظيا بالاهتمام الذي يستحقانه، تأسيسا على ما كشفته الجائحة من نقص وقصور. ونعتقد أنها فرصة ذهبية لتصالح المواطن المغربي مع صحته النفسية، عبر تشجيع التكوين الأكاديمي العصري، وتوسيع قاعدة الطلبة المتخصصين، وإطلاق حملات تحسيسية تهدف إلى العدول عن الحلول السهلة التي تعقد الوضع بدل حله، من قبيل السقوط في شراك الشعوذة واللجوء إلى المسكنات والمخدرات أيضا ، للتخلص المؤقت من واقعه المرضي.
أرقامنا المرتبطة بالطب النفسي تسائلنا جميعا، فهل يكون درس كورونا منطلقنا نحو تصحيح اختلالاته؟؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

9 − 5 =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض