تأملات

التوبة النصوح

الحمد لله الذي وفق من شاء من عباده لما يحبه ويرضاه.
وفضل التائب على العاصي واجتباه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ومصطفاه، فطوبى لمن تمسك بسنته وٱواه. وويل لمن أعرض عن شرعه وعاداه.
صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه الذين تابو إلى الله فنالوا محبته ورضاه، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم نلقاه. أما بعد:
فيا أيها الإخوة والأخوات:
لا زلنا نعيش في رحاب القرآن الكريم مع عباد الرحمن، الذين شرفهم الله بالإضافة إلى نفسه، وقد وقفنا بعد ذكر سلسلة من أوصافهم المحمودة عند قوله تعالى : ( إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا (70) وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)الفرقان.
من الأوصاف السالفة الذكر أن الله تعالى وصفهم بعمل الخيرات، واجتناب السيئات، فهم (لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ )ومن فعل شيئا من هذه الكبائر (يلق أثاما ) أي جزاء ونكالا ( يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) عذاب مضاعف يكرر عليه ويغلظ، وعذاب جهنم ليس يوم ولا يومين ولا سنة ولا سنتين …إنه الخلود (وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا)، ومع العذاب المادي، هناك إهانة نفسية معنوية، أنه يخلد في هذا العذاب حقيرا مهانا ذليلا، مهما كانت مكانته في الدنيا، فهو عند الله ذليل.
هذا شأن من يرتكبون تلك الكبائر، لكن هل سد عليهم الباب فلا رحمة ينتظرونها ولا عفو يرتقبونه؟ كلا فقد استثنى الله عز وجل ( إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا )
هكذا فتح الله باب التوبة على مصراعيه، وهذا من رحمة الله بعباده فهو سبحانه يعلم ضعفهم، وما أودع فيهم من الغرائز، ويعلم وسوسة الشيطان لهم، علم الله ذلك ففتح لهم باب التوبة، وهو سبحانه الذي سمى نفسه التواب، وأخبر أنه (يحب التوابين ويحب المتطهرين ) البقرة 222
فلو شاء لخلقنا ملائكة لا نعصي، لكنه خلقنا بشرا نصيب ونخطىء ونستغفر ونتوب، فيتوب الله علينا، فلابد لأسماء الله الحسنى أن تعمل عملها، فإن من أسماء الله تعالى: الغفار والعفو والتواب، فإذا كان الإنسان متطهراً لا يذنب، فعن من يعفو الله؟ وعلى من يتوب الله؟ ولمن يغفر الله؟ ولهذا جاء في الحديث الصحيح “والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا فتستغفروا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم” رواه مسلم عن أبي هريرة
ولهذا كانت الذنوب طبيعية من الإنسان.
من غير الطبيعي أن يستمرئ الإنسان المعاصي، وأن يستمر في طريق الذنوب، ولا يرجع إلى الله، هذا هو الخطر، الخطر الاستمرار في الخروج عن الله، الخطر في عدم اليقظة التي ترد الإنسان إلى الله بعد شروده، ولهذا كان هناك أشياء جعلها الله مطهرات، ومكفرات للذنوب التي تقع من الإنسان، أول هذه المطهرات : التوبة
والتوبة تغسل الإنسان من الذنب كما يغسل الماء الجسم من الوسخ، إذا صحت بأركانها وشروطها فمن تاب تاب الله عليه ( والتائب من الذنب كمن لا ذنب له)
ولذلك سئل بعض السلف: هل إذا تبت تاب الله عليّ؟ قال:
بل يا جاهل إذا تاب الله عليك تبت، أما قرأت قول الله تعالى (ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم ) أي أن توبة الله عليك أسبق من توبتك إليه، ومعنى توبة الله عليك أن يوفقك إلى التوبة، ما دام قد حركك لتتوب وتندم وترجع إليه فهذا دليل على أنه قد تاب عليك.
إن آدم أبا البشر أخطأ ونسي ولم يجد الله له عزما، ولكنه سرعان ما راجع نفسه، وعاد يقرع باب ربه، ويقول: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} الأعراف:23
{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} البقرة:37.
التوبة هي الممحاة التي منحها الله للإنسان، ليستطيع أن يغسل بها ذنوبه، وأن يتطهر بها من ماضيه، وأن يتحرر من آثاره، {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}النور:31
والله تعالى يقول في كتابه (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ) فهم مذنبون ومسرفون على أنفسهم بالمعاصي. لكن الله يقول (قُلْ يَا عِبَادِيَ) أي لم يحرمهم من شرف العبودية لله والانتساب إلى الله، فكل الذنوب تمحى بالتوبة حتى الشرك (قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ)، ومن سبقت التوبة الإيمان والعمل الصالح: {إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عملا صَالِحًا} الفرقان 70
لماذا جعل الإيمان والعمل الصالح بعد التوبة؟
وقد قرن الله التوبة بالإيمان، لأن المعاصي -وخاصة الكبائر- تخدش الإيمان وتجرحه، فـ ”لا يزنى الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن” متفق عليه.
فلا بد أن يُجدِّد إيمانه بالتوبة، وأن يعمل بعد ذلك صالحا.
فإذا استجمعت التوبة شرائطها فإن الله يقبلها كما قال تعالى ( وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون ) الشورى

هاكذا استثنى – سبحانه – التائبين من هذا العذاب المهين فقال : ( إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ . . . ) .
أى : يضاعف العذاب لمن يرتكب شيئا من تلك الكبائر، ويخلد فيه مهانا، إلا من تاب عنها توبة صادقة نصوحا، وآمن بالله تعالى إيمانا حقا، وداوم على إتيان الأعمال الصالحة، فأولئك التائبون المؤمنون المواظبون على العمل الصالح ” يبدل الله تعالى سيئاتهم حسنات “بأن يمحو – سبحانه – سوابق معاصيهم – بفضله وكرمه – ويثبت بدلها لواحق طاعاتهم، أو بأن يحبب إليهم الإيمان، ويكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، ويجعلهم من الراشدين.

وبتفسير ٱخر في قوله تعالى:
{ إِلَّا مَنْ تَابَ } عن هذه المعاصي وغيرها بأن أقلع عنها في الحال، وندم على ما مضى له من فعلها، وعزم عزما جازما أن لا يعود، { وَآمَنَ }بالله إيمانا صحيحا يقتضي ترك المعاصي وفعل الطاعات { وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا } مما أمر به الشارع إذا قصد به وجه الله.
{ فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } أي: تتبدل أفعالهم وأقوالهم التي كانت مستعدة لعمل السيئات تتبدل حسنات، فيتبدل شركهم إيمانا ومعصيتهم طاعة، وتتبدل نفس السيئات التي عملوها ثم أحدثوا عن كل ذنب منها توبة وإنابة وطاعة، تبدل حسنات كما هو ظاهر الآية.
وورد في ذلك حديث الرجل الذي حاسبه الله ببعض ذنوبه فعددها عليه، ثم أبدل مكان كل سيئة حسنة فقال: : يا رب إن لي سيئات لا أراها هاهنا ” والله أعلم.
{ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا } لمن تاب، يغفر الذنوب العظيمة، { رَحِيمًا } بعباده حيث دعاهم إلى التوبة بعد مبارزته بالعظائم ثم وفقهم لها ثم قبلها منهم.

أيها الإخوة والأخوات : ينبغي أن نُسارع بالتوبة، ينبغي أن نُبادر فنُراجع حسابنا مع الله عز وجل، ونصحح أخطاءنا، ونقف على باب ربنا مُستغفرين تائبين، قائلين : {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} الأعراف:23

أسأل الله العلي العظيم ، أن يتوب علينا وعليكم، وأن يوفقنا وإياكم إلى التوبة الصادقة النصوح، إنه سميع قريب.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين

عبد الرحمان سورسي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

واحد × 2 =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض