ثقافة

اشكالية الابداع بين التفكيك والتحليل النفسي: دراسة د. الغزيوي بوعلي / اللغة والفكر‎

إشكالية الإبداع بين التفكيك والتحليل النفسي
تعد قضية الإبداع من أهم القضايا الأساسية التي مازالت لم تحض بالاهتمام والدراسة، على الرغم من أنها من بين المفاهيم التي أثير حولها النقاش منذ القديم. فقد قدمت لها عدة تأويلات وتخريجات، كأن أغلبها أقرب إلى مفاهيم، مثل الرسم والتشكيل والإلهام والعصاب. وعلى الرغم من ذلك فقد بقي الغموض يسود تحديد هذا المفهوم – الإبداع – ويكتنف إبداع الفنان وشخصيته مدة طويلة، حيث وقف الفلاسفة والنقاد القدامى أمام الغموض وعللوه تعليلات شتى، فارتبط عند قدماء اليونان بحلول المثل الأعلى فيه وربطه قدماء العرب بالشيطان وبوادي عبقر … وأن لكل شاعر شيطانا (…) كما ارتبط عند المحدثين بالعبقرية تارة، وبمركب النقص تارة أخرى، وعند فرويد بالليبيدو والعقد النفسية وعند يونغ باللاشعور الجمعي”.

انطلاقا من هذا الطرح، يظهر لنا واضحا مدى التنوعات والاختلافات التي تكتنف جنسية الإبداع، سواء عند المشتغلين بعلم النفس أو عند المهووسين بالمعارف المتنوعة أو عبر تطوره التاريخي. فالإبداع عبارة عن تجديد، حيث يتحدد بكونه “فعالية إنسانية وخلقا ينبغي أن يتجاوز الواقع المعتاد، ويتخطى ما هو مألوف بهدف إنتاج صور ورموز وأفكار مغايرة، من أجل استشراف آفاق جديدة تبرهن على الملكة الخلاقة للفرد ككائن عملي يسعى دوما إلى تغيير واقعه، وصياغة علاقة أكثر ملاءمة لطموحاته والحركية والعدالة والتقدم”. فالمبدع وفق هذا التصور يعتبر تجاوزا وتخطيا للسائد والمألوف، أي السابق في الوجود، إنه ليس تقليدا له وإنما استشرافا لما سيكون، لأن الهدف من ورائه ليس تفسير الواقع، بل تغييره. وهذا التغيير يجعل الذات الفردية ترغب في تأسيس الخيال من أجل صياغة فنية تكون أكثر ملائمة، أي أنها عبارة عن تجسيد “لجهد إنساني، إما أن يبقى في الحدود الذاتية للفرد وإما أن ينصهر في إيقاع جماعي يحفز مختلف القدرات الذاتية على تطوير الواقع وتحسين شروط العيش”.
من هذا المنطلق يبدو أن تعامل الباحثين والدراميين مع التصوير يتماشى وفق بعدين:
1- بعد نفسي فردي وهو الذي يؤكد على المخزون الفردي في الإبداع باعتباره تفجيرا لرغبات وصور وأفكار، لم يتمكن الفرد التعبير الصريح والمباشر عنها، فيجد في المجال الإبداعي متنفسا ولحظة تعويضية يكشف فيها تلك الصور والأفكار والرغبات بشكل أكثر شمولا وجمالا. فالتصوير إذن يحمل بين جنباته ترسانة فكرية قادرة على ربط الواقع بالأبعاد النفسية كسؤال مشترك يطرحه كل واحد منهما، لأن حياة الفرد تتجاذبها جملة من التأثيرات المتنوعة في تصوراتها وتجلياتها، وذلك من خلال تفاعله المستمر والدائم مع العالم الخارجي، سواء كانوا أفرادا أو جماعات. وتبعا للمواقف والوضعيات المتنوعة وموقع الفرد ضمن دينامية التفاعل هذه، يجد أن يكون فاعلا ومؤثرا ومنتجا للوقائع والأحداث؛ كما أنه يستجيب لمؤثرات المحيط كله، وبالمقابل يعمل الفرد على توليد الدلالات السلوكية وذلك وفق منطق مبني يعكس طبيعة التفكير والمعرفة الاجتماعية التي تتأسس عليها سيرورة المجتمع، وبعبارة أدق نوعية المنطق المشترك المبني على أسس تحيلنا على نوع من المعرفة الظاهرة، والتي تشتغل انطلاقا من صور وآليات ذهنية لها كمجرى فعلي في الحياة اليومية، تبتدئ غايتها في تعلم ما يحدث لنا.
إن الحس الجماعي يدل إذن على مجموعة من الآليات السيكولوجية والسوسيومعرفية التي يشكل من خلالها الأفراد معارفهم حول الواقع، ويحولون تبعا لذلك سلوكهم انطلاقا من المعارف والمعايير التي تزودهم بها هذه المعرفة، ومن خلال التحولات الجوهرية لهذه الدينامية السوسيودرامية، نحس أن هناك سيرورة الإدراك والتمثل التي تجعل الفرد يؤسس نظراته وطرقه النفسية الاجتماعية.
2- بعد اجتماعي الذي يكون فيه الإنسان من حيث هو كائن اجتماعي لا يمكن أن يصور إلا داخل سياق اجتماعي، لأنه جزء منه وإليه يعود وبواسطته يحمي ذاته، ومهما يكن من أمر فإن الإبداع التصويري رهين بمجموعة من الشروط الذاتية والاجتماعية التي توفر له إمكانات التحقق والفعل النفسي الباطني، فلا يمكن أن نفهم الأسس المرجعية للتحليل النفسي إلا إذا فهمنا كيف وظف عند الغرب؟ وكيف تقبله الناقد العربي؟ وهل استوعب شروطه الفلسفية المبنية على رغبة الذات المتفلسفة؟ إذن لأن النقد التواصلي لم يعد يرى ضرورة التقوقع حول ما خلقه الأجداد من تراث نقدي يلوك ما لاكه السابقون من دون تغيير ولا تجديد، ويعيد علينا أنماط باتت محاطة بفهم يكرس الأدوات المنهجية تجاوزتها التيارات الحديثة والمعاصرة. والواقع أن الأدباء والشعراء الغربيين كانوا السباقين إلى تناول مفاهيم علمية وإنسانية ومعرفية، مما مكن نقادنا من الإطلاع على هذه المعارف والمناهج، وصبغوها بصبغة علمية وفلسفية وأدبية، مكنتهم من تفسير العمل الفني وفقا للعمل المطروح. هذه الازدواجية تعبر في حقيقتها عن ازدواجية ثقافة الناقد العربي وثقافة الغرب. وهذه الثنائية (الذاتي – الموضوعي – الاجتماعي – النفسي …) كلها مفاهيم إيحائية تتداخل فيما بينها وتتفاعل، كما أنها تعمل فعلها في عملية درامية وجمالية، لكن الجوهر في كل هذا يبقى للجانب الذاتي النفسي في هذه العملية، لأنها عملية صادرة عن الذات الفردية ونابعة منها ولا تأخذ شكلها الفني كما قلنا إلا انطلاقا من الذات المبدعة، وعبر هذه الذات تخرج إلى العالم وإلى الوجود. فهذه الآلية السيكومعرفية تجد تعبيراتها في الحياة الاجتماعية من خلال أنماط التأويل، هذه الأنماط تحيل دوما على البعد السيكولوجي الذي يبرر لنا الحس المشترك بين الذات المبدعة والموضوع المدروس.
هكذا فإن المبدع يسعى دوما إلى الخلق والإبداع انطلاقا من إدراكاته وتمثلاته التاريخية والاجتماعية إلى فهم وتأويل الوقائع السلوكية الذي يكون ذاته موضوعا لها، وذلك وفق تأويلات تحاول رصد مصدر الأحداث والوقائع التي تنتج الحتميات الصادرة من الأبطال والشخصيات. فالجانب الذاتي كما قلت هو صاحب الحق الأكبر في الدفع بالمبدع والناقد إلى الإبداع والمعاودة، لأن إشكالية الاختيار بالنسبة للناقد بين هذين التفسيرين تحتل مكانة كبرى في نوعين من مجالات التأويل داخل حقل علم النفس الاجتماعي. وتنطلق الكتابات النقدية التصويرية العربية في مقاربتها للعلاقة التي تربط علم النفس بالإبداع كسؤال كينوني منخرط في الأسئلة المنهجية، سؤال يسمو بنا للتأكيد على أن القراءة تشتمل على شيء من التواقت، لأنها تمتد بقوة مترقبة تريد الإلغاء أو التوظيف أو الهيمنة لتطرح كتابة موازية، تجسدها طقوس نقدية عبر الإنتاج التراثي، هنا نلامس الإكراهات التي تناسب في مع المقولات الفرويدية والأدليرية واليونغية واللاكانية … باعتبارها أنشطة ذاتية تمس تجليات المعنى الخفي والمضمر، وترصد الدلالة الإيقاعية لهذه الذوات، مما يدفعنا إلى الاهتمام ببطائقهم الرمزية وتركيباتهم الأدائية، قصد اكتشاف قاموسهم النفسي والأسطوري والتشخيصي. لأن الاكتشافات التي تمت في مجال علم النفس قد أظهرت أن البناء النفسي للكائن يمر كما هو الشأن بالنسبة للجسم بمراحل معينة، لذا فالإبداع بدوره اتخذ القواعد كصيغة تعمل على تقريب الذات من هذه المسؤولية التوليدية، هذا التقارب الذي اتخذه النقاد والفلاسفة عبارة عن ممارسة لا تراعي صفة اليقين، بل تؤكد على النسبية، لأن المثول أمام العقل يستلزم مساءلة كل المواقف الباطنية وكافة المعتقدات وتفكيكها، لذا عمل علماء النفس على رفض حجج العوامل الخارجية والغير القابلة للتأثير، لأنها لا تدخل في إطار المعرفة العلمية ولا تنبثق هذه الحقائق إلا من خلال مساءلة الذات الحداثية كما قلنا، لأنها تساعدنا على التواصل إلى وجود موقع وسط بين النزعة الفردية والنزعة الجماعية. ويقول “فرويد”: “علينا أن نعترف للناس العاديين الذين كانوا ينتظرون من التحليل النفسي شيئا أكثر من اللازم بهذا الصدد، لأن التحليل النفسي لا يسلط الضوء، أي ضوء كاشف على مشكلتين قد تكونا أهم مشكلة على الإطلاق بالنسبة للجمهور، وذلك لأن التحليل النفسي لا يستطيع أن يفيدنا في مجال الوقوف على سر الموهبة الفنية كما أنه ليس من اختصاصه أن يزيح النقاب على الوسائل التي يستخدمها الفنان في عمله، أي أن يكشف عن التغذية الفنية”.

يجب أولا أن نسلم أن علم النفس هذا ليس تصورا مطلقا، وإنما هو منهج يتيح للباحث وللناقد وللمحلل أن يعيش مع العوالم الممكنة بكيفية متحضرة، إنه يرمي إلى تغييرنا كما يسعى إلى قيادتنا نحو وجهة صائبة، لأن كل ما يهدف إليه هو تمكين الفرد من معرفة دواخله وتقبل التناقضات والإفرازات من أجل صيانة الذات حقوقها الفردية والجماعية، “ففرويد” يقوم بإدانة استراتيجية الغزو من الأدباء عبر اللاشعور، فهو غزو يتخذ لنفسه ضرورة الاستمرار في الكشف عن الخلل داخل عوالمنا؛ لذا يشكل هذا الاكتشاف جزءا من الأجهزة المضافة إلى القنوات التحليلية، حيث تعمل على إدماج كل الذوات ضمن ثقافة مشتركة وضمن انسجام تام، ومن جهة أخرى لعبت دورا أساسيا في تعميق الاختلاف الثقافي بين المجتمع وغيره من المجتمعات ومن الواضح أن هذه المهمة المزدوجة قد صارت مهددة بسبب تحول العالم “إلى قرية عالمية Village planétaire، حيث غدا الأفراد في هذا العالم سجيني هوياتهم المنغلقة، وصاروا في الآن نفسه مواطنين في عالم افتراضي Virtuel يطغى عليه استهلاك البضائع المنمطة Standardisés”، وعلى الرغم من أهمية هذه المقاربة التحليلية وتفسير الأعمال الفنية والكشف عن سر المواهب لدى الأدباء والمسرحيين والشعراء، فإنه في مواضيع أخرى قد اتسمت آراؤهم بالاعتدال، خاصة وأنهم قد قدموا بعض التوضيحات ووجهات النظر دون الهروب منها”.

وهذا النبش في طبقات الإبداع التصويري جعل المبدع يؤكد ذاته من خلال منظر تركيبي جديد يراه ضروريا لتطوير النقد الغربي من أجل دراسات الإبداع العربي والمغربي، لأن التركيب هو قدر الناقد، وعليه أن يبرز لنا الخصائص النفسية والعبقرية، وتقول “يمنى العيد” في هذا الصدد: “في العالم العربي لابد أن تراعى خصوصيات الكتابة الإبداعية العربية، لذلك يجد الناقد العربي نفسه دوما أمام قدر واحد هو تركيب العناصر النقدية الغربية على مستوى وطبيعة إدراكه للعالم”. إذن يهدف هذا الحضور النقدي إلى إقامة توازن بين العالم الخارجي والعالم الداخلي الذي يولد في الإنسان الرضوخ والانكماش والنقص، لأن هذا التوازن يتحول من مجتمع إلى مجتمع، ومن ذات إلى ذات؛ لأن البنى الذهنية تشكل عالما لا نستطيع أن نجده أو نقبله إلا بواسطة تأويل يقربنا إلى المقولات التي تحاكم كلا الذهنيات الإبستيمية والتي تصور الفنان والمسرحي في شكل “رموز وبذائل ونكوصات، وتدمجه في كل مكونات النص الدال، بحيث لا يوجد فرق بين ما هو نفسي وما هو اجتماعي”. فهذه الخاصية النصية لا تحمل في ذاتها دلالة جاهزة ونهائية، بل هي فضاءات دلالية متنوعة وإمكانات تأويلية، لذا يقول “فرويد”: “إن أبحاث التحليل النفسي قد سلطت بعض الضوء في مجال علم المناهج وعلم الأدب وعلم النفس والفنان (المبدع) (…) وإن كل التقييم الجمالي للأعمال الفنية، وكذلك تفسير الموهبة الفنية أو الأعمال الفنية ليست من مهام التحليل النفسي لكنه يبدو – أي التحليل النفسي – في وضع يسمح له بقول كلمة قاطعة ومقنعة بالنسبة لكل الإشكالات التي تهم الحياة التخييلية للأناس”.
إن قراءة “فرويد” ظلت هي المهيمنة في الساحة العربية والساحة الغربية، لأنها توظف عدة مفاهيم: كالهو والأنا والأنا الأعلى، وهي مفاهيم تكشف النقاب عن طبقات النص المضمرة، وتساهم في تجديد الأواصر بين النص والمتلقي والمبدع. فهذه العلاقة تجعل أحدهما يتوقف عن الآخر، لأن القارئ يرتهن للنص، والنص بدوره يرتهن بقراءة كل قارئ على حسب تعبير “علي حرب”. من هنا انفتح النص على التوليد والتعدد، واشتمل على الأحلام بكل أبعادها الفنية والأدبية؛ لذا ينبغي أن نطرح السؤال التالي: أين يكمن وجه الشبه بين الأحلام والإبداع في علم النفس؟ وكيف تولد العملية الإبداعية؟ أسئلة تستمد مشروعيتها من اختلاف التأويلات والقراءات لتصبح القراءة فعالية منتجة تعيد تشكيل الذات الحالمة. يقول “فرويد” في هذا الصدد: “الحلم ظاهرة نفسية صادقة، كأصدق ما تكون الظاهرة النفسية، إنه تحقيق رغبة والطريق موصول بينه وبين ما تعقل من نشاطنا النفسي في يقظتنا”.
تثير القراءة الفرويدية عدة إشكالات مفادها أن المبدع الحالم يجتهد في تقصي المعنى قصد استخراجها في صيغة جديدة، حيث تتعدى الألفاظ، وتقارب بين الأمكنة والأزمنة، لأن الولادة الإبداعية تغير ترتيب العالم، وتجعل اللغة تتسلح بسلاح رمزي دون قول الحقيقة الحرفية. ويقول “علي حرب”: “والحق إن القول بأنه ليس في النص إلا في المعنى الظاهر، هو قول يصدر عن تصور معين للنص، قوامه أن النص ذو بعد واحد، وأن الكلام يساق على مستوى واحد، وأن للمعنى وجها واحدا لا غير، فلا يكون والحالة هذه احتمال ولا ترجيح ولا خفاء ولا احتجاب ولا اشتراك ولا مجاز ولا اشتباه ولا تأويل، فالمعنى بحسب هذا التصور معطى مباشر، والدلالة ظاهرة بينة”. فالمبدع شبيه بالعصابي لأنه يخرج خياله على شكل إبداع فني، هروبا من هذا الواقع المكسور، فالخيال إذن هو الغاب الذي يختفي فيه خوفا من المشاكل والصعاب، هذه التركيبة الخيالية لا تميز بينه وبين العصابي. يقول “فرويد” في هذا المقام: “والفنان يبقى وطيد العزم، بخلاف المريض العصبي، على سلوك طريق العودة ليرسخ موطئ قدميه في الواقع، وما الصياغة الفنية إلا تلبيات خيالية لرغبات لا شعورية”.
هكذا فالأحلام والمرض العصبي هي بمثابة لا شعورية تتحقق بواسطتها مجموعة من الرغبات المكبوتة التي أحبطها الواقع اليومي والأخلاق والدين. فهذه المواقف تجعل الإبداع لا ينفصل عن الذات المفكرة، بل يجعلها كائنة في الإبداع ذاته، وملتحمة مع كل المظاهر اللغوية والجنسية واللذوية التي تتطلب الإشباع، وتسمح للرغبات الشبقية بأن تلعب دورا أكبر في عمليات التخييل. هذا التماثل الذي يوجد بين الإبداع والحلم، هو التماثل الذي دفع “فرويد” إلى اكتشاف هذه المواصفات في رواية”فراديفا” “لوليام جوستن”، جاعلا هذه الرواية تحمل طبقات رمزية وأقوال قابلة للتأويل، لأن الحلم والإبداع يعتمدان التحويل والنقل والتحويل والترميز كآليات “تتظافر فيما بينها لتكون عمل الحلم، وذلك عن طريق مساهمتها في طمس رغبة لا يمكن أن تظهر بشكل صريح وواع، لأنها تتعارض مع تصور الحالم لذاته؛ أي أن هذه الرغبة تكون غير واعية لأن الرقابة النفسية تمنعها من الوصول إلى حيز الوعي” هذا يعني أن الفن في دلالته لا يظهر إلى الوجود بأسلوب حر، إلا لكون الأنا الواعية تتستر وتظهر بشكل من أشكال التدوين الذي يعكس الواقع الممكن ويجسده، مما يجعل هذه الرغبات تحاول الانفلات من هذه الرقابة بطريقة لاشعورية، وقد جسد لهذه الوظيفة أثناء دراسته لهذه الرواية العائلية للعصابيين واكتشافه أن “القصة للعصابيين ليست مقصورة على المرضى وحدهم، فجميع الأفراد مجبورون على صياغتها ذهنيا فقط في مرحلة معينة من الطفولة، ولكنهم يكتبونها ويصرون على نسيانها”. فهذه الصياغة الطفولية تتجسد في شكل رغبات دفينة، حيث تعود ولادتها إلى مراحلها الطفولية. الشيء الذي يمنح لهذه المفاهيم والمصطلحات كالذكرى والذاكرة والماقبل الشعور واللاشعور وعقدة إلكترا وأوديب، فحضورها كفعل موازي داخل النص كتناصات وكقطائع وبدائل مختلفة التوظيف والتأويل تجعل هذه القطائع تحتاج إلى التفسير على النحو المذكور، أي بالقول إن المفاهيم تحتاج دوما إلى بيان من غيرها، حيث تثير عدة إشكالات سيكودرامية لتصبح كلاما فوق الحقيقة، أي تحل محل العادي وتغدو بديلا عنه، لأن الإدراك الحقيقي الذي نقصده لا يدرك إلا من خلال النصوص الموازية ومن خلال التأويل والتفسير. فالتوجه إلى روح المبدع وإلى عمقه واستخلاص جوهره، هو نقيض القراءات البسيطة التي تعتمد المقدمات والأصول الساذجة وسيادة الذات وقصدية الوعي وهوية الفكر وإمبريالية المعنى. ففي العالم الذي يسكن الذات المتعالية تتخذ الأنا تفرغها في اللفظ وفي الدلالة لتلغي الإكراهات التي تمارسها الأنا الأعلى وكل الترسبات الماضية.
إن هذه البنية التحتية اللاشعورية لا تنظر إلى واقعنا بوصفه ماهية تتطابق مع ذواتنا، بل كيانا مستقلا لا يخدعنا بلعبة التضاد بين السطح والعمق، بل يقربنا إلى الترسبات المجازية والعقائدية اللاواعية التي تنسج الحقيقة وتجعل المتلقي في منتهى الاندماج أي تسلبه إسهاماته الفعالة من أجل إعادة تشكيل أفق انتظاره من حيث أن الصور فيها صور رمزية، لها ظاهرها ولها باطنها.
وعلى الرغم مما سبق، تتغير النظرة إلى الذات وتقتضي تحويل النظر إلى النص وإلى المبدع وإلى العلاقة بالفعل، لأن المقاربة لا تخرج من مأزقها إلا إذا توقفت عن النظر والحكم على النص بوصفه أحادي الدلالة، وعلى الذات بوصفها علامة واحدة لا تحتمل التفاضل ولا التعدد ولا الاختلاف والتأويل. فالذات المبدعة هي كلامي وتصوري وتعبيري، يتعدد بتعدد السياقات والتعارضات وتترتب مستوياتها حسب العوامل الداخلية والخارجية التي تخترقها لتخلق منها شقوقا وفجوات. وعبر هذه الشقوق نتقبل الأشكال الرمزية التي هي عبارة عن استعارات ومجازات وأخيلة، تتيح لنا إمكانية تخريج النص، لأنها تتعامل مع الآخر – العالم – الذي يسيجنا ويتوجد فينا، فهذه الخاصية التفسيرية تتعدد إمكاناتها وتأويلاتها، وتتنوع اختراقاتها لهذا الغريب والمدهش.
إنها عبارة عن انزياح يلتقي مع الآخر المقموع والمختفي. ويقول “علي حرب”: “فبالمجاز يجتاز الإنسان العوالم ويقرب بين الأشياء، وذلك حيث تصير الكلمات رموزا، تحيل من شيء إلى شيء وترتحل بنا من عالم إلى آخر”.
لا يمكن أن نلغي القراءة الموجهة إلى روح النص التي تستدعي النفاذ إلى بواطنه واستخلاص عمقه لفهم الذات، وإن كانت تطرح نفسها كبعد تخريجي، لا تبني الأصول في كليتها المتخيلة ولا تجعل الأنا المبدعة تقبل النظرة الأحادية، بل تسمح للتعدد أن يؤسس مساحة كبيرة تفيض بالدلالة والمعنى. فالنص المسرحي ميزته الاتساع الدلالي والاختلاف السياقي، لأن التوسع والاختلاف يجعل الرؤية النقدية تنفتح على مختلف عناصر الوجود ومراتبه، والانفتاح كما قلنا على الاختلاف، يتيح لنا عقلنة المسار النقدي بوصفه يؤول النصوص بمنهجية تبحث عن كيفية توظيف الخيال، لأن النص هو شفيرة مفاهيم مؤلفة من تنظيم دلالي وتراكم مجازي فأخذها على سبيل المثال المبدع والباحث أدلير فإنه ينقب عن أنظمة المعارف، ويحفر في طبقاتها لمعرفة أهم المفاهيم الموظفة التي تجعل المبدع يعوض ذلك النقص الذي كان يحس به. فحسب “أدلير” “فإن كل فنان يعاني من نقص يحاول دائما تعويضه عن طريق “جميع إمكانياته للتغلب عليه عن طريق الفن أو الأدب، وبقدر ما يعاني من مركب نقص، يظهر إبداعه الفني والأدبي، وهكذا تكون قد ارتبطت العملية الإبداعية عند “أدلير” بالشعور بالنقص”.
فتحديد العملية الإبداعية بهذا الشكل، تعتبر خير تبرير لمدى تباينها مع التحديد الفرويدي لها، ولمدى عدم تبعية “أدلير” لأستاذه في ذلك، فبدل أن يعود “أدلير” إلى دوافع الإبداع وإلى مجموعة من العقد والمكبوتات المرسخة في اللاشعور، والتي ترجع في أصلها إلى الجنس، لجأ إلى تبرير مخالف يقوم على الشعور بالنقص كدافع ومحفز للإبداع، وعلى التعويض عن هذا النقص الذي يتحقق في الأعمال المسرحية في شكل صورة ونسق من العلاقات، كنسق تتغير أدواته وعناصره وتتعدد مراكزه وانزياحاته، مما يعني أن هذا التعويض لا يعنى بذاته، بل بموقعه وتباين مساحاته ومجال توتره وتشتته، حيث يتولد هذا التعارض عن القراءة المغايرة، وعن انفجار اللاشعور النصي، واشظي الهوية.
ولم يعد “أدلير” يقرأ النصوص والتماثيل قراءة برانية، بل يندمج معها كحقيقة غير صافية وغير يقينية، ويعمل أيضا على تشكيلها في صيغة لعبة تتحكم في كل إنتاجات الذات الراغبة والمبنية على الاستراتيجيات وعلى المنظومات من الأوهام ويقول “سامي الدروبي”: “إن الخلق الفني في جميع مظاهره ليس إلا ظاهرة بيولوجية نفسية، وليس إلا تعويضا مصعدا عن الرغبات الغريزية الأساسية التي ظلت بلا ارتواء بسبب عقبات العالم الخارجي أو في العالم الداخلي”.
فالإبداع وفق هذا الطرح يبرز لنا هذا التصعيد التعويضي عن مجموعة من الرغبات الغائبة والمقموعة، قصد تحقيق غايات دفينة التي هي في أصلها أو في “حقيقة الأمر تنبع من هذه الغريزة رأسا في هروب تحريري أو ارتواء تعويضي”، وليس المفهوم التعويضي مساحة مسطحة كشف عن معناها، وإنما هو مجال متعدد الأعماق لا ينغلق في الذاكرة، بل يبقى مفتوحا مشكلا مساحة يمكن التسلل من فجواتها إلى داخل الأنوية التمثيلية للكشف عن تستر الخطاب، وكذا عن تحقيق الذات بلغة تضع مصطلحاتها صالحة للتعبير والتصوير والترميز، كما يتجلى ذلك في تداخل الأصل بالعمق والسطح بالجذر، فليس التعويض مجرد تعبير سطحي، بل أثرا يسكن الذات المبدعة بشكل يتحدد كإنتاجية تقوم على الهدم والبناء. وهذا التحديد يسمح لنا بهذا التصور الذي سيتحكم في اختيارنا وفي تأطيره، ويساعدنا على إبراز هذه التناصات التي تتعدد بعيون متفاوتة في الرؤية وفي الجهد النقدي وفي الهم الحداثي، في أبعادها النظرية والتحليلية، وبالاستناد إلى أدوارها ومتونها في مجالات المسرح، فضلا عن الاتجاهات التي ولدت بعد “فرويد” والتي عملت على تكوين مفاهيم تحليلية وتنشتها وفق معايير يضعها المحلل والناقد، معتقدا أنها تضمن له الاستمرارية والتقدم الاجتماعي “فيونغ” يقول: “ارفع العقبة عن طريق الحياة يتقوض حالا هذا التخيل الطفولي، ويصبح من جديد ساكنا لا أثر له كما كان من قبل، ولكن يجب ألا ننسى أنه يعمل ويؤثر علينا إلى حد ما في كل حين وفي كل مكان (…)، لذلك فلا أرى سبب العصاب في الماضي، بل أجده في الحاضر. ولذلك فأنا أسأل عن المهمة الواجبة التي لم يستطع المريض القيام بها”.
إن هذه المنظومة تصبح الأداة الرئيسية التي تحقق الارتباط الوجودي والتكوين المكتسب لمجموعة من المعلومات والمهارات، حيث تؤهل الذات في المجامع وتطوره هذه الخصوصية التعويضية لتتفجر في معمار فني يزاوج بين وحدات النص الآلي المرتبط بالفلسفة التربوية للمجامع، وبين نظراتها للحياة وثقافته وتطلعاته ويعطي “يونغ” لهذه الدلالة الذي يعطيه “فرويد”، إضافة إلى كونه ينكر أن يكون جنسيا بكليته، بل إنه “يجعله شاملا لمفهوم اللبيدو عند “فرويد”، والنزوع إلى التفوق عند “أدلير”، إنه يعتبر اللبيدو الأساسي إلحاحا عاما يشابه إرادة الحياة عند “شوبنهور”، أو الاندفاع الحيوي عند “برغسون”، إنه الطاقة الحيوية العامة التي تستهدف النمو والفعالية والإنتاج، وهو متنفسه عند الطفل في أعماله الغذائية”.
فالعقل الإبداعي المسرحي يستهدف بناء إمكانيات نصية وفق خطة منهجية موجهة، فارضا نسقه الصريح والضمني، مستلهما كل المتون الشخصية التي تتحكم في كثير من سلوكات الأنا واستجابته، كما أن هذه العملية – التملك والاستبطان – لا تتوقف عند مرحلة الطفولة، بل تمتد لكي تشمل مراحل مختلفة من نمو الإنسان ويقول “عبد الواحد المزكلدي”: “إن الإنسان ككائن اجتماعي يعيش في وسط اجتماعي يتفاعل فيه مع الآخرين، لا يمكن أن يحافظ على توافقه الاجتماعي إلا إذا اشترك في مجموعة من الاتجاهات والقيم مع الآخرين، وبالتالي تكون عملية التنشئة الاجتماعية، سواء كانت قائمة على الدمج والتطبيع أو على التملك والاستبطان وبالتالي التنشئة الاجتماعية”، فالممارسة التأثيثية تشعل الأنا في شكل استراتيجية، وترشدها إلى طريق العمل والتفكير الشخصي، بحيث لا يكون الإبداع إلا تظاهرة من تظاهرات تاريخ استخدام المنهج، وبمثابة موضوعات لترويض الموهبة الموضوعية. وانطلاقا من ذلك ينبغي الإقرار بأن الأشكال الموظفة تجعل التفكير يسير من الذات إلى الموضوع لكي تتأسس مقومات الإبداع وما تتطلبه من إبداعات لفظية. وتحتوي هذه القراءة على مكونات إيحائية تختلف في مستوياتها التركيبية واللاشعورية، وتنسج ضمن أبنية وأنساق وتساعد على اكتساب هذه القيم الفنية المميزة بين المعايير الجمالية والذوقية المستندة إلى معايير نفسية باطنية ومعرفية، تحدد مواجهة الذات للنص، وقياس قدرته الدرامية ولكل كفاية من هذه الكفايات مستوى من مستويات الإنتاج والتلقي. ويقول “يونغ”: “إن المكونات الأساسية لهذا اللاشعور الجمعي هي الصور والنماذج العليا البدائية التي هي الأفكار والصور اللاشعورية الموروثة من تراث الأسلاف، وعبر الأجيال مثل تلك الصور حول الأب والله، والشيطان والخير والشر”.
إن وضع حدود للمفاهيم الموظفة يحتاج إلى كثير من الضبط ليستوفي مواصفاته كنشاط وكممارسة. إذ التحليل في نظرنا هو ممارسة مقيدة بشروط غير محددة وغير مسيجة وغير خاضعة لإنتقاء مسبق، ويحيل على برمجة مقصودة في التبليغ المنظم لحدود معرفة الدواخل كعملية لا ينبغي أن تكون عشوائية، وهو ما يسمح بالتأكيد على أهمية التقنين المنهجي في عملية التوظيف.
وانطلاقا مما سبق يمكن القول، إن عملية التحليل النفسي هي عملية إنسانية ودينامية داخلية، تقوم على التفاعل والحوار، وتلغي الدور المهيمن لحضور العامل الخارجي، فتدعونا إلى التجديد في طرائقه، كما تدعو إلى التساؤل المستمر عن جدوى كل فعل يقوم به في نشاطه الإبلاغي والتواصلي، والذي يمكن القارئ من امتلاك الخبرات اللازمة علميا وعمليا لمعرفة اللاشعور الجمعي الذي هو أساس العملية الإبداعية، والتي لا تعكس تجربة المسرحيين فقط، بل تجربة الإنسانية جمعاء ويقول “عز الدين إسماعيل”: “يجب أن ندرس الأدباء كأدباء بشر بحياتهم النفسية، وإنهم فنانون مبدعون تحركهم دوافع الفن السامية والتي تصطدم بدوافعهم ونزعاتهم الحياتية العادية، مما يعد ازدواجا في شخصياتهم من شأنه أن يعد الصراع داخلي ونفسي”. والإبداع يضع نفسه موضع تساؤل واندهاش، لذا نطرح السؤال هل انتهى الإبداع؟ وما علاقته بالمناهج النفسية؟ إن تتجاوز للمحكي وذلك البعد الموضوعاتي هو الذي يعطي للواقع الممكن تميزه وتنغيمه، تنغيم للأداء الجسدي وخلخلة لكل الانتقالات الذهنية والنفسية واللغوية، بلغة تمتلئ دوما بما يفيض عن بنيتها من دلالة إيحائية خافتة لا تسير في اتجاه واحد، بل تعكس الموضوع وتنأى عنه في اللحظة الراهنة، لتجدد شعريتها ولتكسر بها عادات النثر وثوابته، وتتداخل في هذه العوامل المعرفية والسلوكية والتقنية، ليتمكن الناقد من ممارسة دوره الحقيقي في ترجمة النص الإبداعي، مع إعطائه الفرصة الحقيقية للاقتراب من طبقاته المتنوعة، وبذلك تتشكل لديه معرفة بالمهارات المطلوبة من خلال مراعاة خصوصيات النص الإبداعي والبحث عن مستوى النقص المطلوبة من خلال مراعاة خصوصيات النص والبحث عن مستوى النقص والكبت والفصام والذهان والنرجسية والفيتيشية والشيزوفيونية… الأمر الذي يمهد لمعرفة ميول الذات المبدعة والانشغالات التي تستثير بدوافع التحليل والتلقي لدى الناقد، كما يفضي إلى التمكن من أدوات منهجية لمساءلة النصوص والاشتغال عليها في إطار منهجي هادف، وحتى لا يبقى هذا الوعي العميق مشتتا، فإن الناقد يعمل على تصحيح العلاقة التي تربط بين المبدع والنص من جهة، وبين النص والمتلقي من جهة أخرى، فهو تصحيح يقوم على اختراق أعين النصوص لأجل تلاؤم وتفاعل جاد ومثمر مع النصوص الأخرى، وبفضل القراءات الموازية والأنشطة النفسية المساعدة والعمل الجماعي والفردي المنظم. إذ لا يستطيع أي منهج تحليلي نقدي تحقيق الأهداف المتوخاة في غياب منهاج مضبوط، يأخذ بعين الاعتبار الأسس النقدية التي ينطلق منها ويراعي مضامينها المشخصة.
إن أي منهج لابد وأن ينطلق في مراحله الأولى من أسلوب تنظيمي محكم، يراعي التلاحم القوي بين الأهداف المستخلصة والوسائل والمعايير المطبقة، يفرض هذا على الناقد والمؤول خبرات متوحدة في رؤيتها وفي منهجها وفي أنساقها بقصد تحقيق أهداف تراعي خصوصية الذات المدركة والمدركة، لأنها تعتمد على فلسفة نفسية وتاريخية من جهة، ولأنها من جهة أخرى تنبثق من خطة متجانسة وتنظيم محكم وبناء متماسك. وهكذا فإن بناء تصور منهجي ينبغي أن يخضع للمواصفات والإجراءات.
من هنا تتحدد التجربة السيكولوجية في شكل إيقاعات مفتوحة على الممكنة والخيالات المختلفة وتحتمل تخريجات غير يقينية، كقضية تعويضية من كونها تقع في ملتقى نظري يضم نظرية الأشكال التعبيرية والتخييلية والنفسية والاجتماعية واللغوية … وغيرها من الإيقاعات التي تمد هذه التجربة بتوجهات ثقافية ومعرفية، والتي لها دورها في تقديم صيغ سيكودرامية لهذه الذات أو تلك، ولذلك فإن أي حديث عن علاقة علم النفس بالإبداع هو حديث عن علاقة التوجه من النظر إلى الممارسة ومن الهوية إلى الانتماء ومن الشفوي إلى الكتابي. هكذا تؤكد الأشكال الإبداعية بأنها عبارة عن محطات ومواقع مفتوحة ترمي إلى معرفة ثوابت هذا الفن أو ذاك الجنس التعبيري عبر متغيراته وتبدلاته، بموازاة التحديات التي تطرحها علاقتها بباقي التيارات الفكرية والإبستيمية، إن ميزة الإبداع عند “يونغ” وعلماء النفس نوعان: النوع الأول نفسي متعلق بالذات المبدعة أي بنفسية المبدع الخاصة، ويمكن تحديد مصدر هذا النوع التوليدي بالرجوع إلى نفسية المبدع كمصدر للإلهامه الفني والتعبيري.
أما النوع الثاني، فيتقاطع فيه اللاشعور الفردي كما عند “فرويد” و”لاكان” والمتمثل عند “يونغ” في ذلك الجانب المهول من عقل الكائن من جهة وكذلك اللاشعور الجمعي المتمثل في النماذج العليا أو الأنماط أو الموروث الإنساني وما يشتمل عليه من أساطير غابرة في الزمن.
وتبقى ميزة ذا التصور هو منح للنص الإبداعي المعالج سمة التعدد والتنوع، سواء من حيث الشكل أو من حيث الإيقاع النفسي أو من حيث المقولات المعرفية والبنيات الشخصية، لأن العمليات التنفيذية ترتبط مباشرة بالعمليات التوليدية، كإطار يستثمر فيه المبدعون المهارات والمعارف المرتبطة بالغايات بشكل خاص، وبالمنهج المطروح بشكل عام، وتتضمن هذه العملية كما قلنا تقييم ما وظفه المحللون النفسانيون في محطات القراءة، وما طبقه النقاد من أدوات منهجية لمعالجة المعلومات التي تسهل الفهم والإفهام، وتسمح لنا بالقدرة على تصنيف ذلك المكون الجوهري للقدرة النقدية، غير أن القدرة التصنيفية والنقدية ترتكزان على معايير التنظيم اللغوي والترتيبي والدلالي الشيء الذي يفرض تكوين نمذجة مرجعية تكون عناصرها مرتبطة بالخطاطات المسرحية والأدبية، ومؤشرات التعبير والتلفظ يبدو أن البعد التحليلي النفسي الذي يبلوره هذا السؤال يعتبر الطابع الإبداعي لهذا الفعل التجنيسي، وباستعادته لفكرة صعوبة التعريف المنهجي، بما أنه جنس مفتوح على أنظمة علاماتية ومعرفية وعلمية، يجعله عرضة للاختبار وللنقد من طرف العديد من الباحثين والمفكرين، ومن بين هؤلاء نذكر: “ميشيل فوكو” و”ألتوسير” … ففي ضوء هذا الطرح المنهجي يأتي التأكيد حول عدم علمية هذا المنهج، مما جعل الإبداع المسرحي بدوره لا يعتمد شروطا علمية، بل يحتاج إلى مغادرة التساكن بمفهوم “هيدجر” (للسكن) قصد الاقتراب من الإبداع الذاتي، هذا التوقع ليس بعيدا عن الضرورة الاجتماعية ولا التاريخية ولا الاقتصادية، ذلك أن طبائع الخصوصية ولا تتجدد خارج النص المعالج، ولا ما بعد التأويل والنقد، بل تتحدد في المواقف المضاعفة والمصاغة حواريا عبر ممارسات إبداعية أخرى، حيث إن الرصيد الجمالي والنفسي والاجتماعي ينبثق من خلال الصراع الداخلي الذي يعيشه المبدع المسرحي، حيث يسبب له الإحساس بفقدان التوازن أن يبحث دوما عن التجاوز والتحدي. يقول “يونغ”: “ليست الأزمات الاجتماعية فقط هي التي تعمل على قلقلة اتزان الحياة النفسية للفنان، فالأزمات النفسية الخاصة بالفنان أيضا بصرف النظر عن الأزمات الاجتماعية، فقد تعمل أيضا على هز استقراره واتزانه النفسي، مما يدفعه إلى استعادة ذلك الاتزان المفقود”.
يسعى هذا الطرح المنهجي إلى الإقناع، ليقدم البراهين التي تسمح للإبداع بأن يعلو لكي يأخذ مسؤولية الكشف والإظهار، وبناء كل المؤشرات التي توظف تلك الأخيلة، ولتعبر عن وجهات نظر في موضوعات محسوسة، فالتحكم النقدي إذن ينحو نحو إنتاج كتابي مزدوج: 1- تطبيق تقنية التوليد والاختزال. 2- قراءة مضاعفة تسمح بتطبيق كل الأدوات والمعارف، لمعرفة المعطيات النظرية والإيقاعية الداخلية بغية تسهيل تلقيها.
فتحديد المهمة التحويلية للنصوص الإبداعية، هي عملية حاسمة في تطوير الطبيعة النفسية وإغنائها. لذلك وجب أن تتم وتتأسس داخل شروط ضرورية، وبدونها ستكون التأويلات فاشلة وغير موضوعية، وأهم هذه الشروط: البعد النفسي والجمالي والاجتماعي. فداخل كل حقل من هذه الحقول يجب تحويل آلياته الداخلية إلى علم، وبدون ذلك لن يصبح النقد أبدا عملا متماسكا، وسيصبح بإمكان “كل جيل تقويض كل ما بناه الجيل السابق”.
إذن يجب أن تستند هذه المقاربات على فعل دينامي وحركي ممكن، لذا يجعلنا نقرب بين ما هو موضوعي وبين ما هو ذاتي، لندمج الكائنات المستعارة بعناصر الطبيعة السيكولوجية، كي يبقى العامل الحاسم في تعليل العملية الإبداعية الذي هو انسحاب اللبيدو من رموزه الاجتماعية التي كان متعلقا بها في الخارج، لأن هذه الأخيرة لم تعد تصلح لأداء مهمتها، وذلك لما أحدثه تصورات المجتمع، الذي تتحتم عن هذا الانسحاب دون أن يتجه اللبيدو إلى صلب الشخصية، ويحدث أحيانا أن يثير أعمق مناطقها ليبرز بعض كوامن اللاشعور، ويشاهدها الأشخاص العاديون في الأحلام، ويشاهدها أيضا العباقرة في اليقظة، حيث يتعلق أن الإبداع بهذا الوضع يعكس الارتقاء والتسامي بواقع ملغوم بتحريكات ذهنية لمعضلات اجتماعية ونفسية التي تكشف لنا عن ملابسات الذات الأسطورية والتراثية والنفسية …، لذا فمهمة المؤسسات الإبداعية هي تكوين مهارات كافية لتحقيق الغايات التي نبحث عنها في النص أو في العرض.
فالتحليل النفسي ينبغي أن يسبق النقد، لأنه يخضع لمبدأ حركي نفسي داخلي، ولقاعدة رئيسية التي تتحكم في عملية الولادة النصية، لأن القدرة على الفهم تعلمنا، كيف وظف هذا المنهج في الإبداع وفي الأدب؟ كيف وظفه الناقد المسرحي العربي والمغربي؟. أسئلة تنشر كثيرا من الأحكام حول أمور التوظيف لهذا المعجم، دون مراعاة منطق بناء المعارف الفلسفية والعلمية، ولا الشروط السيكولوجية. وهذا ما يقوي لدينا الأحكام والعيوب، نظرا للحذلقة الفكرية والنقدية التي يباشرها الناقد العربي دون وعيه بالشروط الإبستيمولوجية والسيكولوجية.
إن اعتماد منهجية التحليل الإبداعي بالتمارين السيكولوجية لا يعني تقديم نظرية أو ميتودولوجيا جاهزة لذلك العمل مهما كانت قوته، ومهما بلغت درجة تماسكه، لأن تلك المنهجية تظل رهينة بالممارسة وبالإنجاز، وبما سيترتب عن تلك الممارسة من وضعيات عقدية ومن عوائق معرفية. وهذا يعني أن الالتزام بالطرائق والشروط المنهجية تتطلب الدربة والتفكير الواسع والمعرفة الكلية بشؤون المناهج، لأنها الأرضية التي تعطي للعمل المنقود كتوجهات منهجية أولية، التي تعمق النقاش وتضبط طرق العمل، قصد تحقيق المرامي. فالأمر إذن لا يتعلق بموضوع يقع خارج الخطاب المسرحي أو الأدبي، ولا يقود إلى النتيجة المتوخاة، بل يؤصل الحدث بمرجعية تتأطر بالتفكير وبالمفارقة التي تسعى إلى الاقتراب من كل الطرائق المتنوعة، والتي تكشف لنا السبل المؤدية إلى معرفة بواطن المبدع فمراهنة التحليل عند النقاد العرب على تعلم التأويل والتفلسف، يكمن بالتأكيد في ممارسة موهبة النقد وتطبيق مبادئه على كل النصوص المتأخرة لديهم، وهذا يعني أن فعل النقد لا يتأسس من فراغ، بل إنه ينطلق من قراءات متعددة تتيحها المحاولات التي يدخرها تاريخ النقد الإبداعي.
لقد وصفت الأرضية التي انبثق منها تفكيك الإبداعي، إذ هو المرحلة من مراحل جدل المنهجيات وصراعها، وإذا كانت المنهجيات التقليدية، والمنهج البنيوي، تطمح إلى تقديم براهين متماسكة لعمل الأشكال في عملية وصف الإبداع أو الاقتراب إلى معناه فإن التفكيك يبخر الشك في مثل هذه البراهين، ويقوض أركانها، ويرسي على النقيض من ذلك دعائم الشك في كل شيء، ويكمن هدفه الأساسي في تصحيح بنية الخطاب، مهما كان جنسه ونوعه، وتفحص ما تخفيه تلك البنية من شبكة دلالة، فهو من ناحية هي ثورة على الوصفية والبنيوية، وهو يذهب إلى أن الضابط قبل التفكيك والضابط في ضله، فهو رحلة شاقة ومغامرة محفوفة بالمخاطر لا يتوفر لها أدنى عامل من عوامل الأمان في أودية الدلالة وشعابها دون معرفة، دون دليل، ودون ضوابط واضحة. وكشوفاته الذاتية، والفردية، وجماعية، وكذا حقل الدلالة والتعويم المدلول المقترن بنمط ما من القراءة، أي استحضار المغيب. وهذا يقود إلى تخصيب مستمر للمدلول بحسب تعدد قراءات الدال، وبذا فإن نزاع القراءات يقود إلى متوالية لا نهائية من المدلولات، والتي لا يمكن لأحدها أن يساتر باهتمام كلي دون الآخر، فلا ضوابط رياضية توقف هدير المدلولات التي تستنفرها القراءات، فتبدأ بتشكل الأجنة، المكونة كبؤر دلالية، وحقول شاسعة لا يمكن تثبت حدودها إلا في إطار التفكيك، فالإبداع هو اختراق للمألوف، وتأسيس للممكن، ورؤية تجاوزية للمرئي واكتشاف للمختفي والمسكون هكذا عمد ديريدا مغايرة كل الأنساق الإبداعية بلغة الكتابة، والاختلاف.
فهذا الاستغراق في عالم يقودنا مباشرة إلى تعريف ماهية التفكيك، فالمصطلح Déconstruction مضلل في دلالته المباشرة لترفي دلالته الفكرية، فهو في المستوى الأول، يدل على التهديم والتخريب والتشريح، وهي دلالات تقترن عادة بالأشياء المادية المرئية، لكنه في مستواه الدلالي العميق، يدل على تفكيك الخطابات والنظم الفكرية وإعادة الإلمام بالبؤر الأساسية المطورة فيها.
ويقول دريدا في حوار مع كريستيان ديكان: إن التفكيك هو حركة بنيانية وضد البنيانية في الآن نفسه، فنحن نفكك بناء أو حادث مصطنعا لنبرز بنياته، وأضلاعه أو هيكله ولكن نفكك في أن معا البنية التي لا تفسر شيئا، فهي ليست مركز ولا مبدأ ولا قوة، أو مبدأ الأحداث بالمعنى الكامل، فالتفكيك من حيث الماهية، حد لا يمكن تقويضه بسهولة فما البديل إذا؟ إنه الاشتغال على ثنائية الحضور والغياب، ومن خلال فهم جدلي عميق للعلاقة بين هذين المستويين في جسد خطاب الحضور حسب التفكيك رهين مرئي، والغياب ضلاله الكثيفة العميقة الغائرة، المحيط المضطرب المتسع الذي لا قاع له ولا شواطئ، وهو المدلول الذي ينطوي على خاصيته الانفتاح المستمر على القراءة، فيتحاور مع القارئ، ويتحاور معه القارئ فيستمع مثله مثل ما ساكن، تتضاعف دوائره وتتسع إذا ما ألقي فيه حجر على وفق هاته الاستراتيجية يؤسس التفكيك نظرته وكيانه بوصفه طريقة النظر والمعاينة إلى الخطاب، وهو يقف في الجانب الآخر من الأطروحات التاريخية، والسيسيولوجيا والسيكولوجية والبنيوية، هدفه تحرير شغل المخيلة، وافتضاض آفاق بكر أمام العملية الإبداعية. وحسب دريدا فالتفكيك ليس عملية نقدية فالنقدية موضوعها. التفكيك يوقد الجراءة في العملية النقدية، على وجه الخصوص النظرية النقدية ولهذا يمكن القول أنه سلطة حاسمة وتضيف إلى ذلك: أنه يولي القراءة النقدية، أو البناء النظري جل اهتماماته. ولتحقيق أهدافه، وطموحاته، يخترع التفكيك مجموعة من المصطلحات هي بمثابة مقولات سياسية تنهض عليها وتنظم استراتيجياتها في القراءة والتأويل على وفقها، وذلك خروجا على ما ارتسمه المنهجيات السابقة من نقاش وبحث ومعاينة. وأبرز هذه المقولات هي:
1- الاختلاف: تعد مقولة الاختلاف إحدى مرتكزات الأساسية للمنهجية التفكيكية قد حدد ديريدا مفهومه لها في بحث بعنوان “الاختلاف” نشره في كتابه الكلام والظاهرة، يؤسس دريدا من خلال “الاختلاف” مقولته حول الحضور والغياب، ويدير نقاشا ذا مستويات متعددة في اللغة والفلسفة وعلم الدلالة فالمعاني حسب دريدا تتحقق من خلال الاختلاف المتواصل في عملية الكتابة والقراءة، وتبدأ مستويات الحضور والغياب بالجدل ضمن أفق الاختلاف، بحيث يصبح الاختلاف هدفا أكبر ما هو أصل في ذاته فالأمر يتطلب حضور العلاقة المرتبة التي توفرها الكتابة التي تمد العلامات بقوة تكرارية ضمن الزمان، وكل هذا يمد الدال ببدائل لا نهائية من المدلولات مما يثبت أن الدلالة لا نهائية من الزمن، إن هدف الكلام وغايته بوصفه حضورا ذاتيا، ينتج من خلال أثر الزمان في الكتابة، وهو يقوم من ناحية بتفويض الحضور الذاتي، هذا يعني أن ثمة بناء وهما متواصلين وصولا إلى بلوغ تخوم المعنى.
يذهب دريدا إلى أن الاختلاف هو عمل الكلام الداخلي، فالكلام المنطوق يشكل بالاختلاف المستمر بين الكلمة المتطرفة التي تتجرأ عادة إلى دال صوتي ومدلول فهمي، وبين سلسلات المفردات التي تنظمها سلسلة الحديث، وذلك إلى ما نهاية جريا وراء ما يذهب إليه دي سوسيو من أن نظام الذاتي للكلام ينهض على الاختلاف بين العلامات أكثر ما ينهض على الحشد وحدات المعنى، فالعلامة حسب دي سوسيو لا تدل على شيء بذاتها، وأما باختلافها عن العلامات الآخر وهذه الإمكانية لا تتحقق إلا بواسطة الكلام بوصفة حضورا ذاتيا مباشرا يلعب دورا رئيسا في الحقل الدلالي.
إن هذه الوظيفة المهمة لاختلاف بين ما يصطلح عليها دريدا أن الكتابة البديئة (Archi-writing) وهي نمط من الكتابة سابق للكتابة نفسها، أي ذات ميزة قبلية تكن نموذجا متصورا للكتابة قبل تجربة الكتابة قبل حضور التناطق حولها. إن الكتابة البديئة لا يمكن تعريفها موضوعيا لأنها غير قابلة للاستقراء والوصف، لكنها حسب دريدا هي الكتابة التي لا تدع نفسها أن تنتج غير شكل الحضور، وعادة ما تكون أنظمتها موضوعيا بالنسبة لموضعها وكل أشكال المعرفة الأخرى يمكن أن يصطلح عليها ب (اللسانيات غير متمركزة منطقيا Mon logocentrique linguiste) لقد قاد التشدد في التركيز على أهمية “الاختلاف” في بنية الكلام والكتابة إلى تعميم استراتيجيتها كوسيلة للنظر في الخطابات الفلسفية والأدبية وجرت ضمن البرامج التفكيكي عملية شاملة لقضاء على ثنائيات فقد وجه دريدا اهتمامه شبه كلي إلى تحطيم المرتكز الفكري لثنائيات كثيرة مثل الروح، الجسد، الشكل، المعنى، الإشعاري، الواقعي، الإيجابي، السلبي، المتعالي، التجريبي، الأعلى، الأسفل، الخير، .. وذلك لقلب التصور الذهني الذي أرسته الفلسفة الغربية وأحل بذلك مفاهيم ومقولات مثل “الاختلاف” الذي يحتمل المغايرة والتأجيل كما سبق تأكيد ذلك، و”الفارماكون” التي تغني السم والدواء معا، و”الهامش” التي تتداخل أو تحيل إلى علامة لتفكيك “تتفادى مقابلات الثنائية التي ميزت الميتافيزيقا وأن تقيم ببساطة في الأفق المغلق لهاته المقابلات لإقامة استراتيجيات داخل هذا الأفق”.

الاختلاف عند دريدا إذا، فعالية حرة غير مقيدة. ويوجز تعريفها لها بالقول إن “الاختلاف لا يعود ببساطة لا إلى التاريخ ولا إلى البنية” فالاختلاف يوجد في اللغة ليكون أول الشروط لظهور المعنى.
2- التمركز حول الحقل الإبداعي:
إلى جانب مصطلح “الاختلاف” يشتق دريدا مصطلحا آخر، لا يقل عنه أهمية في النظر إلى الخطابات الفلسفية وهو مصطلح تمركز حول العقل حيث يخلص دريدا إلى أن أحد أكثر السبل تأثيرا التي نهض عليها التمركز حول العقل في الفلسفة الأوروبية، هو اهتماما بالكلام على حساب الكتابة، فالتمركز حول العقل والمنطق هو حقيقة الأمر تمركز حول العقل والمنطق هو في حقيقة الأمر “تمركز حول الصوت”، ويرجع جذور هذا الاهتمام إلى أفلاطون الذي عبر عن الحقيقة قائلا أنها حوار صامت مع النفس، وهذا التأكد هو إحدى الدعائم الأساسية لحضور المتكلم مع نفسه، فالحقيقة حسب أفلاطون ما هي إلا المباشرة الصريحة للنفس، كما يتمثل حضور “التمركز حول الصوت” في الحوار بين متحدثين يجمعهما زمان واحد، ومكان واحد، وما سوف يرشح عن حديثهما من معنى أو مقصد حول ما قالاه بالضبط أو ما قصداه بقولهما على وجه الدقة.
إن النموذج الذي يقترحه دريدا، يقترب كثيرا من مفهوم “التمركز حول الصوت” وهو الحوار الصامت والمسموع بين متكلمين اثنين يجمعهما حضور مشترك في الزمان والمكان إذ أن فعلا حواريا مثل هذا، يوصل بالضبط ما هو مقصود، لأنه محكوم بسياق عام يأخذ في الاعتبار أمرين “هنا” و”الآن” وهكذا يبدو، إن مفهوم أفلاطون للحوار يبدو أكثر تفضيلا من المفهوم الأرسطي له، بوصفه شاهدا وجرديا للتجربة العالية للكلام. أما الكتابة فقد عولجت بشهية كبيرة من طرف أفلاطون، وذلك بمحاولته تدمير نموذج التمركز الصوتي إلى حوار مباشر من نفس إلى نفس. إن الكتابة تكشف لنا عن التغريب في المعنى ذاته، إن نقش المعنى الأصلي بواسطة العلامات يهبه استقلال حرية عن المؤلف الأصلي، ولذلك فإنه يمنح مزيدا من إمكانيات التفسير. وهذا بالضبط ما يعيه الاختلاف عند دريدا، إن هذا التغريب أو الأبعاد في المعنى يتوضح بصورة جلية، عندما تستمر العلامات المكتوبة بتوليد بعدها الدلالي بغياب المؤلف وحتى بعد موته، ويقدم دريدا تدليلا لزعمه في كتاب Dissémination تحليلا تفكيكيا بارعا لمحاورة أفلاطون في “فيدروس” ويتوصل من خلال الميتافيزيقا الأفلاطونية إلا مقولات الحضور والهوية والوحدة والبداهة على حساب الكتابة بوصفها إطار للغياب والاختلاف والتباين وهذا بان ما يشتغل عليه دريدا هو ليس فقط حل الإشكال المستعصي القائم بين الكلام والكتابة في الخطاب الفلسفي فحسب، بل مطالبته الأصلية بضرورة بقلب التمركز المنطقي والعقلي في الفلسفة، فهذا يجعلها تتضح بالدلالات وتغطس في بحر التجدد، دون التعثر ببؤر التمركز التي تفرض سطوتها وفق المنظور التقليدي. وأنه بمحور المركزية تتحول النظم الفلسفية ومراكزها إلى خطابات فكرية تعني الجميع في كل مكان وزمان.
لقد وظف دريدا قدرته الحوارية العالية مستعينا بمقولة “التمركز حول العقل” للعمل على إنشاء نظريته الشاملة بمواجهة التراكم الهائل للميتافيزيقا الغربية، فبعد أن أفلح بتجزئة الألفاظ والفرضيات الأساسية ثم تطوير الأبنية التناقضية والحجج التناقضية التي تنطوي عليها هذه الألفاظ والفرضيات، انتقل إلى صلب موضوعه، ألا وهو تفكيك النظم العامة للفكر الغربي بدأ من أفلاطون، فأرسطو وروسو وديكارت وفرويد وصولا إلى معاصريه من الفينومونولجيين الذي نشأ وإياهم على إفرازات تلك النظم الفكرية من أمثال هيدغر وهرسل.
لقد قاده الاستقراء والوصف التفكيكي إلى نفس الزعم بوجود معنى موحد له هوية أو تطابق ذاتي، لأن عمله الذي نهض على التعارض وكشف الأبنية المتناقضة بين له وجود تعارض صميمي في هيكل تلك النظم وهو ما أمده بوسائل متطورة لتفكيك تلك النظم من الداخل بواسطة إعادة قراءتها من جديد. ويكشف دريدا بوضوح استراتيجية عمله على النظم الميتافيزيقيا. فيؤكد أن دراسته لها، بوصفها ظاهرة مهمة تقوم على التموضع داخلها، وتوجيه ضربات متتالية لها، من الداخل أي قطع شطا أمام الميتافيزيقا. إن مسألة انتقالات موضعية ينتقل السؤال فيها من (طبقة) معرفية إلى أخرى من معلم إلى معلم حتى يتصدع الكل وهذه العملية هي ما دعوته ب (التفكيك).
أهم الحقول المعرفية امتد إليها نقد دريدا حول التمركز المنطقي
1- الأولوية الأبستمولوجيا: يقصد بها العقل إدراك حسي.
2- الأولوية التاريخية.
يرى دريدا أن أساس التمركز حول الصوت إنما ينهض على هذه الأولية التي تتحقق بواسطة النظم الميتافيزيقيا للحضور لا نهائي لزمن الذي ينطق من الماضي صوب آفاق المستقبلا، ومهما يكن فالإبداع يبقى قارة مفتوحة على كل القارات الممكنة.

ونتيجة لكل المبدعين الذين يقدمون لنا مقاربات مهمة تسلط الضوء على بعدي الذاكرة والإبداع المركزيين المهمين في البناء والتشييد وكذا تأسيس قاعدة متخيلة للعالم الممكن يبدأ من حاضر إلى مستقبل قادم، ليكون الإنسان هو الصانع والمبدع لا أن يخضع للمراقبة والعقاب لا يعني هذا، أن كل شيء قابل للإبداع، ثمة خطر حقيقي للإبداع والتشويه، بل وخيانة الرسالة الإبداعية التي يود المبدع تبليغها، وهذه الرسالة هي صيحة جديدة أمام العالم الواقعي، من أجل تصحيح المسار النضالي الإبداعي، حيث يعود الإشكال في العمق إلى معضلة الربط بين الواقعي والتخييلي من خلال دينامية المقدس المحتمل في المستقبل، كان الإبداع منطقة التجاذب الإيديولوجي والمعرفي، أما اليوم أصبح الإبداع مسرح التخصصات والصراعات والتأويلات المشروطة بواقع الدولة والمؤسسة، لذا أدعو إلى فتح حوار مع الإبداع لا أن يكون مرتبط بالسلطة ولا العقاب ولا المراقبة.
د. الغزيوي بوعلي / اللغة والفكر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

17 − 5 =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض