ثقافة

صدى رجالات أسفي في التاريخ – الحلقة 89

إعداد: الدكتور منير البصكري الفيلالي / أسفي

     أشرنا في الحلقة السابقة أن الأستاذ حميد بوحميد نذر نفسه للبحث في فن العيطة ، وهو أصل كبير في الغناء العربي، يعرف ذلك من خالط التاريخ الموسيقي ومارس النغم . أي أن العيطة من أقدم الفنون المغربية التي نتجت عن ذلك اللقاء الحضاري والثقافي الذي جرى بين بني هلال الوافدين من الشرق العربي وسكان البطون الأطلسية من الأمازيغ الذين رحبوا بهذا اللقاء ، ووجدوا فيه متنفسا للحصار الذي كانوا يعانون منه بسبب نزعة التشدد الموحدية ، حاملين معهم آلاتهم الموسيقية الجديدة كالطبول والغيطات والرباب ذي الوترين والدف والذي أدى إلى ظهور جوق شعبي لسانه العامية مثل جوق ” لهوير ” .
فالعيطة ـ كما نعلم ـ تؤرخ لمرحلة مهمة من تاريخ المغرب ، وهي فترة ” السيبة ” وضعف السلطة المركزية ، وبروز السلطات القائدية خلال القرن التاسع عشر ، حيث خلفت هذه الفترة الكثير من المشاكل والمآسي الاجتماعية . وهروبا من هذا الواقع المأساوي ، وجد المجتمع في فن العيطة متنفسا يخفف عنه حد آلام التسيب والفوضى . وقد ازدهر هذا الفن أيام القائد عيسى بن عمر العبدي ، وبلغ أوج عطائه . وهذا ما حذا بالأستاذ محمد بوحميد الدارس الأول لهذا الفن وأحد رواد البحث فيه بأن يهتم به ، حيث كانت له به دراية قوية دراسة وعزفا وأداء  ، بل كان على علم بتفاصيل الغناء الشعبي . ففن العيطة عنده قد تطور من شكله البسيط إلى أحسن الأشكال ، مما أدى إلى ظهور أنواع أخرى من العيوط ، فالعيطة الحصباوية مثلا ، تتميز بغنى نغماتها وإيقاعاتها المختلفة والمتنوعة .. إذ تتكون من جزئين متنوعين من حيث الإيقاع والخصائص ، وكل جزء يضم مقاطع منسجمة مع توافق الصوات والحركات ، لتنتهي ب ” السدة ” أي مهلة منسجمة تختم آخر مقطع موسيقي .
وعلى العموم ، فالعيطة فن شعبي ارتبط في وجوده وتطوره بالبوادي المغربية وبالتحولات الاجتماعية والسياسية التي عرفها المغرب ، كما ارتبط بذلكم الغناء العفوي التلقائي الذي يردده الفلاحون في مواسم الحرث والحصاد ، تحمل نصوصه تصورات الإنسان القروي عن العالم الاجتماعي .. والغريب أن كل من يتحدث اليوم عن العيطة ، يربطها بأسفي المدينة ، وهي بعيدة كل البعد عن هذا الفن الذي ترجع أصوله ـ كما مر معنا سابقا ـ إلى البادية المغربية ، ولا علاقة له بالحواضر . فلست أدري كيف ألصق مهرجان العيطة بحاضرة المحيط ( أسفي ) ؟
والحقيقة أن موطنه الحقيقي ـ كما أشرنا سابقا ـ هو منطقة ” الحصبة ” القريبة من مدينة أسفي .. فهو حلقة من حلقات التراث لتاريخ الغناء الشعبي بهذه المنطقة ، ذلك أن متون العيطة تعود بنا إلى روابط القرن التاسع عشر الميلادي وما تلاه من زمن القياد الكبار .
فنحن إذن أمام ظاهرة فنية متفردة في الزمان والمكان .. ومن ثمة ، فالحصبة جغرافيا هي منطقة ببادية أسفي ، حيث تنضح العلاقة بين العيطة والحصبة كمنطقة متميزة تفردت بهذا اللون الغنائي المتميز ، إضافة إلى القصبة التي تعد إحدى المعالم التراثية البديعة والتي لعبت أدوارا تاريخية مهمة ، نلاحظ اليوم ـ للأسف ـ كيف تحولت إلأى معالم مخربة ومندثرة ، تركت عرضة للتدهور والتدمير البطيء  . لذلك ، اصبح من المطلوب التنسيق مع كل الجهات المعنية لإعادة الاعتبار لهذه المعلمة التاريخية وللمنطقة ككل ، وفك العزلة عنها ، وجعلها محورا للحركية الاقتصادية ، وتشجيع الاستثمار في أفق تطوير العرض السياحي والثقافي والاقتصادي . فلم إذن لا يفكر مبدعو مهرجان العيطة بأسفي ، نقله إلى هذه المنطقة بالذات بغية التعريف بها والنهوض بمقوماتها الطبيعية والتراثية والسياحية وهي كثيرة ومتنوعة ، وذلك من خلال تنظيم مثل هذا المهرجان الذي سيعيد لهذه المنطقة ” الحصبة ” بلا شك ، ألقها التاريخي ومجدها التليد ، علما بأن المنطقة تحبل بالكثير من الآثار التاريخية وفي طليعتها قصبة القائد عيسى بن عمر التي تحولت اليوم إلى أطلال ، مما يتطلب التفكير الجدي لإعادة الاعتبار إلى معلمة تعد جزء لا يتجزأ من تاريخ الوطن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

17 + 15 =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض