
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي هدانا لأقوام السبيل, ونسأله أن يمدنا بعزم لا يأخذه فتور ولا ملل, وأن ينفي عن قلوبنا اليأس ويقوي منا الأمل, والصلاة والسلام على نبينا محمد المؤيد بأجل آية وأسطع برهان , الداعي إلى الدين الحق بأقوم حجة وأبلغ بيان , وعلى آله وأصحابه السادة الأمجاد .الذين فتحو بحكمتهم القلوب,ومن تبعهم إيمان وإسلام وإحسان إلى يوم الدين. أمّا بعد :
فإن رمضان شهر الصبر, ومدرسة الصبر, فالصوم تعويد على الصبر, وتمرين عليه, ولهذا ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمى شهر رمضان شهر الصبر, وفي حديث آخر عنه صلى الله عليه وسلم قال :
«الصوم نصف الصبر»[أخرجه الترمذي].
أيها الإخوة الأحبة في الله .
في هاذة الحصة المباركة الرمضانية.
أود أن أقدم لكم إخواني أخواتي موضوعا تحت عنوان:
[ الصبر في شهر رمضان ]
[ نماء لحلاوة الإيمان ]
وإليكم تعريف الصبر لغة واصطلاحا:
الصَّبر لغةً : نقيض الجَزَع، وهو الحبسُ والمنع، ويقال: صبر صبراً: تجلَّد ولم يجزع، وصبر: وسُمّي الصوم صبراً لما فيه من حبس النفس عن الطعام، والشراب، والنكاح، فتبيّن بذلك أنّ الصبر هو: منع وحبس النفس عن الجزع، واللسان عن التشكِّي، والجوارح عن التشْويش: كلطم الخدود، وشقّ الجيوب ونحوهما، والمصدر صَبَرَ يَصْبِرُ صَبْـرًا فهو صابِرٌ وصَبَّار وصَبِيرٌ وصَبُور، والأُنثى صَبُور أَيضًا بغير هاء وجمعه صُبُـرٌ. وأَصل الصَّبْر الحَبْس وكل من حَبَس شيئًا فقد صَبَرَه،
الصبر في الاصطلاح : هو حبس النفس على ما يَقتضيه العقل والشرع ويطلبه، أو ما يقتضيه العقل والشرعُ على النفس أن تحبسه، ومن ذلكَ أن تُحبَسَ النَّفسُ عن مَحارمِ الله، وأن تُحبَسَ على فرائِضِهِ وعن التسخُّطِ لأقدارِهِ والشِّكايةِ منها، ومنهُ العزيمةُ والثَّباتُ عندَ البَلايا والترفُّعِ عن الشَّكوى لغيرِ اللهِ تَعالى من حوادِثِ الأيَّامِ ومُجرياتِ القَدَر.
فالصَّبرُ من أحسنِ الأخلاقِ وأفضَلِها؛ إذ هو المانِعُ عنِ الاندِفاعِ والوقوعِ فيما لا يُحسن، وفيه قوَّةٌ عَظيمةٌ تسمو بالنَّفسِ حتَّى تذوقَ حلاوةَ الإيمانِ، ومِن هذه القوَّةِ ما يَبذُلُهُ العَبدُ في تحمُّلِ المشاقِ والآلامِ، وما يُبديهِ من ضبطٍ للنَّفسِ واجتِهادٍ في البُعدِ عن المُحرَّماتِ والمعاصي وكبتِ الشَّهوات، وعونُ النَّفسِ في إدراك الطَّاعاتِ وتحمُّلِها والمُداومةِ عليها، ومُجاهَدتُها للسَّعيِ إلى الإحسانِ والانصِرافِ عن التذمُّرِ.
ثم إن الصبر ثلاثة أنواع :
صبر على طاعة الله,
وصبر عن محارم الله,
وصبر على أقدار الله المؤلمة, وتجتمع هذه الثلاثة كلها في الصوم, فإن فيه صبراً على طاعة الله, وصبراً عما حرم الله على الصائم من الشهوات, وصبراً على ما يحصل للصائم من ألم الجوع والعطش, وضعف النفس والبدن.
وهذا الألم الناشئ من أعمال الطاعات يثاب عليه صاحبه, كما قال تعالى في المجاهدين : {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التوبة ]
بل إن الصوم يضاعف مضاعفة خاصة, ذلك أن الله عز وجل يتولى جزاء الصائمين, فقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف».
«قال الله عز وجل: إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به, إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي» .
قال ابن رجب – رحمه الله – في هاذا الحديث : ” فعلى هذه الرواية يكون استثناء الصوم من الأعمال المضاعفة, فتكون الأعمال كلها تضاعف بعشر أمثالها إلّا الصيام فإنّه لا ينحصر تضعيفه في هذا العدد, بل يضاعفه الله عز وجل أضعافاً بغير حصر عدد, وصدق الله العظيم إذ يقول :
{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر : 10] ” ا هـ.
وهكذا يتبين لنا عظم الإرتباط بين الصوم والصبر وأن الصوم سبيل إلى اكتساب خلق الصبر ذلك الخلق العظيم الذي أمر الله به وأعلى منارته, وأكثر من ذكره في كتابه, وأثنى على أهله القائمين به, ووعدهم بالأجر الجزيل عنده.
قال تعالى : {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ} [النحل: 127], وقال: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}
وأخبر عليه الصلاة والسلام أن: «الصبر ضياء»(رواه مسلم: 223).
قال القرطبي في معنى ذلك: «هو الصبرُ على العبادات والمشاق والمصائب، والصبر على المخالفات والمنهيات، كاتباع هوى النفس والشهوات، وغير ذلك، فمن كان صابراً في تلك الأحوال، متثبتاً فيها، مقابلاً لكل حالٍ بما يليق به؛ أضاءت له عواقب أحواله، ووضحت له مصالح أعماله، فظفر بمطلوبه، وحصل له من الثواب على مرغوبه»
(المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم: 1/477).
وأما في الآخرة فإن أهل الإيمان واليقين يُجْزَون الغرفة ويلقون فيها تحية وسلاماً؛ وذلك بسبب صبرهم على طاعة الله تعالى، ومجانبتهم ما يسخطه، ومقابلتهم الابتلاءات والإغراءات بالصبر والمصابرة، والثبات والمرابطة على ما يرضى الله عزَّ وجلَّ.
أيها السادة الأفاضل: عليكم بالصبر الجميل لتفوزوا .وبنهج شيم الأنبياء والمرسلين لتسعدوا.
فإن الصبر هو طريق الأنبياء والمرسلين عليهم السلام، وبه تحلوا وتجملوا، مُدحوا به في القرآن الكريم، وأثنى الله تعالى به عليهم (وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ) [الأنبياء:85]، وأيوب عليه السلام ابتلاه الله تعالى في جسده ابتلاءً شديداً ثماني عشرة سنة، حتى جفاه القريب والبعيد، وصبر هذه المدة الطويلة على هذا البلاء العظيم، وسأل الله تعالى أن يكشف ضره؛ فعافاه الله سبحانه، وأثنى على صبره فقال سبحانه:
(إنا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ العَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) [ص:44].
فمهما كان هذا الكرب عظيما، فعليك أن تتلقاه بالصبر والتسليم، وتكون راضيا عن ربك تعالى، عالما أنه حكيم عليم، يضع الأشياء في مواضعها، ويوقعها في مواقعها، وربما كان ابتلاؤك رفعا لدرجاتك، وزيادة في حسناتك، وتكفيرا لسيئاتك؛ فإن قضاء الله كله خير، كما في صحيح مسلم من حديث صهيب -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء فشكر، كان خيرا له، وإن أصابته ضراء فصبر، كان خيرا له.
وحسبك ما وعد الله به الصابرين من المثوبة الجليلة، والأجور الجزيلة، كما قال تعالى: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ {البقرة:155-157}. وقال تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {التغابن:11}.
قال علقمة: هو العبد تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله، فيرضى، ويسلم. اهـ.
والنصوص في ثواب الصابرين، وما أعد لهم من الأجر كثيرة جدا، بل قد قال بعض السلف: لولا المصائب، لوردنا القيامة مفاليس.
فاحمد الله على ما أكرمك به، أن خصك بهذه الكرامة العظيمة، وأنزل عليك هذا الكرب تمحيصا لك، وتكفيرا لذنوبك، ولعل لك عند الله منزلة لا تبلغها بصالح عمل، فقدر ما قدره لينيلك تلك المنزلة.
ومما يعينك على الصبر، بعد استحضار ما ذكرناه: أن تعلم أن الجزع لا يفيد، فمن رضي فله الرضا، وقدر الله ماض، ومن سخط فله السخط، وقدر الله ماض، فلا تجمع على نفسك بين بلاء الدنيا، وحرمان الأجر في الآخرة، واعلم أنك متى استعنت بالله تعالى، أعانك، ورزقك الصبر مهما عظم البلاء، واشتد الخطب، كما ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: ومن يتصبر يصبره الله.
فاستعن به، ولذ بجنابه سبحانه، وأكثر من دعائه، والابتهال إليه في أن يجعل كل قضاء قضاه لك خيرا وأحسن تاويلا.
جعلني الله وإياكم من الصابرين، وسلك بنا دروب الأنبياء والصالحين، وحمانا من سبل الهالكين .
ورزقنا وإياكم الصبر الجميل.
واجعلنا في هاذا الشهر الفاضل المبارك من الآمنين إنك سميع مجيب .
اَللّهُمَّ قَرِّبْنا فيهِ اِلى مَرضاتِكَ ، وَجَنِّبْنا فيهِ مِن سَخَطِكَ وَنَقِماتِكَ ، وَ وَفِّقنا فيهِ لِقِراءةِ اياتِكَ ، بِرَحمَتِكَ يا أرحَمَ الرّاحمينَ .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
يتبع.
عبد الرحمان سورسي