
آراء ودراساتسلايدرمع قهوة الصباح
نظراتٌ في الدعاءِ الناصِري….في اللجوء لباب الفضل (8)
محمد التهامي الحراق
دعما للأفق الروحاني في لحظات الابتلاء، واستحضارا لطاقة الدعاء عند الشدائد والضراء؛ كما تؤصل له المرجعية الإيمانية الجامعة بين البذل والتوكل، بين الأخذ بالأسباب وملازمة الدعاء؛ ننشر ها هنا نظرات في متن الدعاء الناصري(نسبة إلى الصوفي الكبير محمد بناصر الدرعي دفين تمكروت عام 1085هـ). ويعد هذا الدعاءُ واحدا من أشهر الأراجيز التوسلية التي اعتاد أهل المغرب استعمالها في باب التضرع عند الشدائد والمحن.
* * *
“الدعاء الناصري” بستان غني بالمعاني والقيم والأسرار، لذلك اعتنى به أهلُ المغرب حفظا وتداولا وإنشادا وتدارسا. وإذا كنا قد وصلنا في الحلقة الماضية إلى أبيات ينبلج فيها سر المناجاة باستعمال ضمير الخطاب: “أنت”، فها هنا استئناف لنفس الانبلاج، حيث يقول الناظم مخاطِبا ومناجيا مولاه سبحانه:
أنت الذي نسعى بباب فضله — أكرمُ من أغنى بفيض نيله
ويبدو أن هذا البيت تحصيلُ حاصل للبيت السابق، والذي أكد فيه الناظم أن الحقَّ سبحانه هو العنايةُ التي لا تُرتجى حمايةٌ من غير بابها، حيث قال:
أنت العنايةُ التي لا نرتجي — حمايةً من غير بابها تجي
لذا لزم هنا الوقوفُ بباب فضله سبحانه طلبا لفيض نيله و عطائه. ومعلوم أن الفضل الإلهي رحب واسع بلا ساحل، قال تعالى: “وَاَللَّه ذُو الْفَضْل الْعَظِيم”، و قال سبحانه: “وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً” “؛ وقال أيضا مبشرا عباده المؤمنين: “وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً”، و فضله سبحانه عطاء فائض لا راد له، قال تعالى: “إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ”، و قال أيضا: وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِه”، وهو فضلٌ يُخْلَصُ عطاؤه ويُغنى بفيضِ نيله المتحققون بالفقر من عباده، قال تعالى : : “إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ”؛ لذلك وجدنا الناظمَ يؤكد سابقا على تحقُّق المتضرع بالفقر، يقول:
إليك يا غوث الفقير نستند — عليك يا طهف الضعيف نعتمد
ثم إن الفضل الإلهي لا حدَّ له ولا حصر، ولا قيد عليه ولا حِجْر. وهو لا يُنَال بتَعَمُُّّلٍ ولا بكسب؛ إذ هو محض تفضل منه سبحانه ومِنَّة. ومعلوم أن المسلك التربوي الروحي للشاذليين الذين ينتمي إلى سلسلتهم الشيخ ابن ناصر الدرعي هو على العموم مسلكُ فضْل وشكر، لا مسلكَ تخريب و بذاذة وتقشف. و هذا واحد من معاني الفضل لديهم، وإليه يشير الشيخ الحراق بقوله: “دخلتُ من باب الفضل فلا أدلُّ إلى عليه”.
ولمَّا كان الفضلُ تكرما إلهيا، كان أولُ مجاليه التي تَبرزُ فيها العنايةُ الربانية، هو مَجْلَى الهداية. وهي هدايةٌ ممتدة مستمرة، وهذا هو سر استعمال الناظم لفعل المضارع “تَهدي” في قوله:
أنت الذي تَهدي إذا ضللنا — أنت الذي تعفو إذا زللنا
و لكونِ خطرِ الضلال ملازماً للسير، كان طلبُ الهداية أيضا ملازما له، إذ حيث يكون الضلال يحصل الزلل، لذلك اقترن نعتُ المُخاطَب بكونه يهدي و ينقذ من الضلال، بنعت العفوِ بحيث يعفو سبحانه عند الانحراف و الزلل. ومعلومٌ أن من أسمائه سبحانه، “العفُو” و به ناداه الناظم في مفتتح هذا الدعاء بقوله: “و يا قريب العفو يا مولاه”.
ثم إن في هذا البيت خِصِّيصَة سبق أن أشرنا إلى مَثِيلتِها في قوله:
أنت الذي ندعو لكشف الغمرات — أنت الذي نرجو لدفع الحسرات
و نعني بذلك التعبيرَ عن معنى الإلحاح في الدعاء من خلال التكرار الإيقاعي لضمير الخطاب: “أنت”، وهو تكرارُ دال يظهر في بداية صدر البيت وفي بداية عجُزِه:
أنت الذي تهدي إذا ضللنا — أنت الذي تعفو إذا زللنا
فضلا عن وصل هذا الضمير في البيت باسم الموصول: “الذي”، مما يتيح التوسع في ذكر ما يُميزُ المخاطَب من هداية عند الضلال و عفو عند الزلل. و هنا و بسطا لما يتفرد به المولى من مكارم و محامد تتناسبُ و ما يتوسلُ و يتضرعُ من أجله الناظم، يقول:
وســعت كل مــا خــلفت علمـــَـا — ورأفــــة ورحـمـــــة وحِــلمـَـــا
فهو هنا يستمد من وُسع علمه سبحانه إذ هو العليم، قال تعالى:﴿ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾، ومن وُسع رأفته و رحمته سبحانه؛ إذ هو رؤوف رحيم، قال تعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾، كما يستمدُّ من وسعِ حلمه سبحانه فهو “الحليم”، قال تعالى: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً﴾. فكل هذا الوُسْع الذي تتصف به أوصافُه الرحموتية سبحانَه، جعلت أهل الاضطرار لا يقرعون غير بابِه و لا يطلبون في الشدائد سواه. يقول العبد:
مولاي واقف ببــابك — عند قرع النــوائبِ
فيجيب الرب:
اطلبني عبدي تجدني — في أشدِّ المصــائب