ثقافة

توشية على الضفاف…

 

نص الكلمة التي ألقى الأستاذ الدكتور محمد التهامي الحراق في حق أخيه وأستاذه مربي الأجيال سيدي أحمد الحراق بمناسبة تكريمه من لدن “جمعية شمس المحبين للمديح والسماع وكورال اكرام التابع لها”، بالرباط بتاريخ 24-02-2024:

بسم الله الرحمن الرحيم.
اللهم صل على سيدنا محمد الفاتح الخاتم وعلى آله وصحبه.

تَوْشِيَّةٌ عَلَى الضّفافِ..

-1-
تمنيتُ أُن أُقْدِرَ الحرفَ الأولَ من هذه الكلمة على الإفضاء، أن أنفخَ فيه هِبَةَ قولِ ما لا ينقالُ، أن أجعلَه يَسْبِرُ صمتاً فائضاً، وذاكرةً في ثناياها القصيةِ تثوي مشاهدُ وأحداث ومواقف وأحاسيس وأمنيات وأحلام وأنغام وشخوص ونجاحات وآلام … تمنيتُ أن أبلِّلَ هذا الحرفَ بماء سرٍّ تَسرِي نُكهتُهُ المتفردةُ في دمِي منذُ أمدٍ وما تزالُ، أنْ أُغمِسَ هذا الحرفَ في سريرةٍ تتوالَجُ في أمواجها وتتشابكُ صورٌ وأفكارٌ ومشاعرُ وأسئلةٌ وأسماءُ وترانيمُ وما تزال …إنها سِيَرةُ عمر يحضُرُ في ديوانِهَا، ببهاءٍ أوحدَ لا يُضاهى، اسمُ وصوتُ وشذَى ومعنى أخي وأستاذي وسندي سيدي أحمد الحراق……..

-2-
سيكونُ عَلَيَّ أن أعْصِرَ الكلماتِ، وأُقَطِّرَ الاستعاراتِ، و أُعطِّرَ الإشاراتِ ، لأهمسَ بقُلّ من جل مزاياه، وأبللَ الاعرافَ بِطَلٍّ من يَمِّ سجاياه ….سيكونُ عليَّ أن أعتذرَ لسريرتي وأنا أتطاولُ على قداسة صمتِها، وأنا أرسمُ حروفا ثملى بالحيرةِ على شطِّ سرها المتعذر على كل بوح …وأنا أخُطُّ على الماء قسماتِ وتقاسيمَ أخٍ بِحُنُوٍّ أسطوري، وأستاذٍ بِبَذْلٍ نسكي، وراعٍ بسخاء أبويّ؛ مُحِبٍّ متزهدٍ في محراب المعرفة، اتخذَ مكتبتَه جَنَّتَه، ومساعدةَ الآخرين دأبَه وبُغيَتَه، ونجاحاتِ أخوتِهِ وتلامذته مسرَّتَهُ وبَهْجَتَه… أما إيمانُه بروحانيةِ دار الضمانة فلا يضارِعُهُ غيرُ عشِقِهِ الفارضيِّ لَها ..إنها تَسكُنُه قبلَ أنْ يَسكُنَها، مَحَضَها من العشقِ ما محضَ لـ”جمعية الصفا لمدحِ المصطفى” من صِرفِ حياته ورحيق دمه، حتى أضحى كأنها هُو وكأنهُ إياها….

-3-
تتعاقبُ الأجيالُ، وسيدي أحمد الحراق، لا يبارِحُ الأملُ محيّاهُ الصبيح، يبتسمُ برونقٍ ويحلُم بنفس الألق، يُوسِّعُ دائرةَ الرعاية والعنايةِ، وبذاتِ الشغفِ يقاربُ ويُسدِّد، كيما تظلَّ مدرسةُ الولي سيدي علي بن أحمد للمديح والسماع معطاءةً ، ذاتَ سيادة وريّادة…يُواصل تخصيبَ الآمالِ في الأجيال، من خلال النظراتِ والكلماتِ والنَّغَمات، والبذلِ الكريمِ في الحسِّ والمعنى، والحضِّ على المزواجة السعيدةِ بين الجمالِ والسُّؤال، أي بين الفنِ والمعرفة .. وهنا قلَّةٌ قليلة مَن تعرفُ أن الرجلَ خبيرٌ كبيرٌ في السيرةِ النبويةِ العَطِرة .. وبحَّاثة متبحِّرٌ في أغوارِ فلسفة الدين، مع عمقِ اطلاع، و تؤدَةٍ في التحليل، وتواضع جَمٍّ ونادر، ممهورٍ بتردُّد هو ترددُ الكبَار في الحزمِ والحسمِ المعرفيين قبل طرح وتحري الأسئلة المصيرية المنسِيَّة.

-4-
…لسْتُ هنَا بصددِ التعريفِ ولا الاعترافِ، بِقدْرِ ما أنا هنا فِي حضرة إفضاءٍ مُستَرَقٍ من غفلةِ حرف..إنني لستُ أبدا مُؤَهَّلاً للتعريفِ والاعتراف بسبب حِجابِ المحبة، ومعلوم أن المحبة حجابٌ مثلَ المعاصرة. غير أنني لا أستطيعُ الحديثَ عن مُكَرَّمِنا بغير مدادِها، مثلما لا أستطيعُ أن أُوفيهَا حقَّها الذي لا أعهدُ له حَدّا، ولا أعرِف له وسْمَا، ولا أرى له في المدى شَطّا … فمُكَرَّمُنا في دخيلتي هو نُكْهَة الأبِ ِالذي لم يتمَلَّ الطفلُ الذي كنتُه ببهَاهُ، وهو حُلْمُ الأمِّ التي سبَقَني إلى ارتشافِ لبنِها البادي زلالُهُ على مُحَيَّاه، وهو أمَلُ الشابِّ الذي صِرْتُهُ أُفُقاً مَفْتُوحاً ما فَتِئَ يُوسِّعُ بلطافةٍ مَدَاه.

-5-
حفظ اللهُ بحِفظِهِ سيدي أحمد حفظاً يليقُ بسمُوِّ معناه، وكرمِ خُلُقِه، وصفاءِ رُوحِه، وسخاءِ بَذْلِه وعَطَاه، ومَتَّعَهُ بفتوحاتٍ يُضْمِر حُلْمُه مسالكَها، وعلمُه مفاتيحَها… وأمدّ الله في عمره حتى يرى، في تلاميذه ومدينته وأمتهِ وحياته، ما يُكَافئ بعضا من جهودهِ وعطاءاتِهِ وتضحياتِهِ… وشكرَ اللهُ سعيَ القائمينَ على هذا اللقاءِ التكريميّ البديع، شُكْراً لا تَفِي بهِ العباراتُ ولا النغماتُ، وامتناناً يُذَّخَرُ لهمْ عند بارئِهِم في ميزات الحسنات؛ وخصوصاً منهمُ “جمعية شمس المحبين للمديح والسماع الصوفي وكورال إكرام التابع لها”، شكرا لابن “جمعية الصفا” الشاب المحبوب عبد الفتاح خليطي، والشريفة المتوهجة محبةً لدار الضمانة للا إكرام الهاشمي الوزاني؛ وثناء استثنائيا لصديقي الأستاذ مراد الكواش على ما أبداه من روح التفاني وكرم السعي لإنجاح هذا اللقاء الأنور؛ وورودا عطرى أنثرها بين سائر الحضورِ، محبين ومحبات، وذاكرين وذاكرات، وفنانين وفنانات، تقديرا لهذا الدرسِ النادرِ في ثقافة الشكر والاعتراف… وإكبارا لمشاركتهم بالجوارح والجوانح في هذا العرس الفني والروحي الباذخ،… ثم تحية وتجلةً ختاميتين لكل من بذلَ، صامتا أو صائتا، ضامرا أو ظاهرا، سرا أو علانية، تنظيما أو إنشادا أو حضورا؛ من بذلَ الوقتَ أو المالَ أو الاقتراحَ أو العملَ أو المباركة والدعاء كيما تظلَّ رموز دار الضمانة مبهَجَ قيم المحبة والسماحة؛ ومَمْتَحَ معاني الغبطةِ والفن والجمال…. وعذرا للحَرْفِ إن نشّزت في العزف، عذراً إن أفضيتُ بما لا يُطيقُ من شطحٍ.. فما هذه الهمساتُ سوى عنوانِ ظمإ…أو قل مجردُ توشيةٍ موسيقيةٍ تتراقصُ على الضِّفَاف…

محمد التهامي الحراق

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

ثمانية عشر − ثلاثة عشر =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض