
مولاي العربي الوزاني المحافظ المجدد
يعد الفنان والباحث مولاي العربي الوزاني من العلامات الأساسية التي نستحضرها –باحثين ومهتمين- في إطار تعرضنا لسيرورة الخطاب النظري والعملي في الآلة الأندلسية، ولاسيما في الفترة الحديثة والمعاصرة. لقد شكل هذا الباحث المتميز من خلال أعماله المتنوعة تجلّيا مشرقا لرجل وصل بين النظرية والتطبيق من جهة، كما انتصر إلى التحليل الموسيقي الصرف من جهة أخرى؛ زد على ذلك تفرده بتوجه فكري معتدل يشج فيه بين المحافظة والتجديد مما ألفينا صداه في كتاباته وإبداعاته.
مدار كلامنا في هذه المقال الوجيز، هو استكناه الموقف الفكري الذي نحاه مولاي العربي الوزاني في تعامله مع تراث الموسيقى الأندلسية المغربية مدارسة وممارسة.
تقتضي الموسيقى الأندلسية المغربية كفن ينتمي إلى التراث، وعيًا منهجيا لمعاينتها وقراءتها واستحضارها في سياقنا المعاصر؛ ومولاي العربي في هذا الصدد، لا يفوته هذا الهاجس المنهجي الذي استدعاه بوعي بصير في حديثه عن سؤال تطوير هذه الموسيقى، حيث قدم لنا التموقفات الفلسفية التي صيغت في التعامل مع التراث عموما، والموسيقى الأندلسية منه بخاصة، إذ يقول: “يقف الناس من قضية تطوير الموسيقى الأندلسية مواقف مختلفة، فيدعو البعض إلى التمسك بأشكالها التقليدية بدعوى حمايتها من عوامل التغيير، وحتى لا تفقد مقوماتها الأصلية، في حين يدعو البعض الآخر إلى تطويرها، كي تصبح مسايرة لمقتضيات العصر الحاضر، انطلاقا من الفكرة القائلة بأن الموسيقى التقليدية المتواترة تلعب دورا أساسيا في عملية تطوير موسيقى الشعوب، وتنعكس هذه التيارات المتباينة على الأجواق الأندلسية بالمغرب، خاصة في مجال العزف الآلي والأداء الصوتي”.
إنها نظرة بانورامية لأنماط الفكر في ميدان الموسيقى الأندلسية المغربية، بيد أن مولاي العربي لا يزج بتوجهه بنبرة تعسفية متسرعة؛ إذ يلقي – في نفس سياق كلامه الأول- التمثيل بطوري العملية التعليمية في هذه الموسيقى، حيث يكون التلقين في البداية مقيّدا بالمسارات اللحنية المكونة للصنعة من غير زيادة أو حذف. أما العملية الثانية، فيسمح فيها للمتعلم أن يضيف الزخارف والتحليات التي تتأسس على الأسلوب الأصلي. من ثم يطرح سؤال: هل هذه الإضافات مقبولة بالنسبة إل المحافظين؟ إنه يدعو بشكل غير مباشر إلى تبني التيار التجديدي، كيف ذلك؟
لم يظل صوت مولاي العربي الوزاني خافتا في هذه المسألة، بل عبر عن رأيه في سياق آخر بكل وضوج وجلاء، حيث يقول: “يجب علينا أن نفهم أن موسيقانا، بالرغم من أصالتها فإنه علينا أن نعرف أن أي فن من الفنون لا ينبغي أن يعتمد فقط على السلفية وحدها، فلا بد من تهذيبه؛ وذلك لا يكون إلا بالقواعد التي من شأنها أن تجعله في أطوار واضحة المعالم مدققة مضبوطة الجوانب”.
يستشف من خلال هذا الكلام، أن مولاي العربي الوزاني لا ينتصر إلى ما أسماه ب “السلفية”، أو ما يمكن أن نعبر عنه ب “التقليدانية”، إذ يؤسس لمنظور لا ينطلق بإسراع نحو التجديد، بل يضمن لهذا التجديد المنشود شروطه ومقوماته، وبالتالي أكد الباحث على مسألة التهذيب وفق قواعد معينة.
نعم، إن تطوير الموسيقى الأندلسية حسب الوزاني، لا يمكن أن يتم إلا بإنجاز طور أولي يروم التنسيق والتنقيح؛ وذلك لما مارسته الشفوية من تأثير في الألحان، مما أدى إلى بروز اختلافات كثيرة بين المدارس الفنية، ومما أدى أيضا إلى فقد بعض الطبوع لنوباتها، إذ نلفي في بعض النوب ارتكازات نغمية منافية لقاعدتها.
وبالتالي لدينا واقع يحتاج إلى معالجة، وتبعا لذلك اقترح مولاي العربي مراحل تنزيلية لإزالة الشوائب عن ذلك:
– المرحلة الأولى: دراسة الألحان وتحديد سلالمها، وقد تم إنجاز ذلك في مؤتمر الموسيقى العربية بفاس سنة 1969.
– المرحلة الثانية: تنويط هذه الموسيقى وإصلاح صنعاتها، بناء على سلالم الطبوع التي حددت سلفا.
– المرحلة الثالثة: تنظيم أساليب العرض والإلقاء والتوزيع.
تثيرنا في هذا الصدد، الكثير من القضايا التي يطرحها الباحث، والتي نقدمها في النقاط التالية:
1- إذا كان مولاي العربي يدعو إلى استعمال النوطة في الموسيقى الأندلسية المغربية، فإنه يميز بينها وبين الممارسة الموسيقية التي تقتضي الأخذ بعتبات تداولية أكثر مرونة، فهو في هذا الصدد لا يلغي طابع التحلية والزيادة الذي يكون مثلا في جواب الكرسي، حتى وإن خرجت هذه التحليات عن العناصر النغمية المؤسسة للطبع.
2- إن الوزاني في تصوره لأسلوب العرض عند جوق الموسيقى الأندلسية المغربية، يشج بين الآلات الموسيقية القديمة والحديثة، الوترية منها والنفخية، وهو في ذلك يعرض مختلف التسويات التي يمكن للجوق أن يأخذ بها، خصوصا في آلات الكمان. والموسيقى الأندلسية في اعتقاده كانت موسيقى الآلات منذ بداياتها، وبالتالي لا غرو أن تفتح هذه الأخيرة الباب على مصراعيه لأجل استعمال الآلات الموسيقية الثابتة منها وغير الثابتة، بكل حرية، مما يسهل وسائل التفاهم والتحاور بين جميع الأقطار.
3- إن أسلوب الإلقاء عند مولاي العربي يقوم على أساس تكاملي لا يميل إلى القطبية الغنائية، حيث يدعو إلى تعاون أصوات الموسيقيين والمنشدين في آن واحد، مما يسهم في بناء جمالية الصنعة، مضيفا “أن التجرية أظهرت أن المغني الواحد في موسيقانا يترك بها فراغا، وخصوصا في القطع المشغولة وبذلك تفقد رونقها”.
4- يتحفظ الوزاني في إضفاء توزيع فني شامل في هذه الموسيقى، بل يجب “أن يقتصر –أي التوزيع- على الكراسي أو جزء من القطعة القابل لإدخال الزيادة”، مع أنه يتساهل في مسألة تكوين جوق عصري، يستعمل الهارموني (التوافق الصوتي)” بشرط ألا يطغى على اللحن لأن الذوق لا يستسيغه”.
ومن المؤشرات الدالة على رغبة مولاي العربي الوزاني، المزاوجة بين قيم التراث وقيم الحداثة، استثماره في تحليلاته للطبوعِ مجموعةً من مرجعيات الخطاب النظري الموسيقي المختلفة والمتنوعة، حيث ينطلق من الخطاب النظري للحايك، ويستطرد في فك شفراته بناء على مصطلحات ومفاهيم غربية وشرقية لا تلغي خصوصيات هذا التراث؛ كما يستدعي مفاهيم ومصطلحات اجتثها مما يمور في الواقع العملي، والتي درج على التواصل بها أرباب هذا الفن. ومن ثم، فالخطاب النظري عند مولاي العربي يقوم على تكامل مرجعي يربط بين النظرية المغربية والمشرقية وكذا الغربية، مما يجعل تحليلاته غير واقعة في مستنقع الاستيلاب الذي يجب بالفكر في أدران التكلس والترهل.
ومن المواقف القوية التي عبر عنها مولاي العربي الوزاني، تحفظه الكبير من عدم الالتزام بالطابع المغربي في أداء هذه الموسيقى، ولا سيما أنه جايل منذ فترة الستينيات تسرب الطابع المشرقي إليها؛ وذلك على مستوى الغناء والعزف معا، يقول الباحث معبّرا عن رأيه في المسألة: “أمسينا نلاحظ بكل أسف، أن بعض المغنيين والعازفين ممن ينسب للموسيقى المغربية، ويعمل في دائرتها لا يلتزمون الغناء في الطبوع المغربية؛ فتراهم يطعمون مواويلهم بالنغمة الشرقية، إما مختارين لها أو واقعين في تأثيرها، مما يجعل السامع الهاوي ينتقل من جو إلى آخر، وهو غير راض عن هذا الانفصال، كما يجعل الفنان المتذوق غير مرتاح لما يسمعه من خلط لا مبرر له، لأنه يقدر الموسيقى المغربية والشرقية معا، لكنه مقتنع بوجوب وضع الأمور في أماكنها؛ فالشرقي شرقي، والمغربي مغربي، والخلط بينهما ليس من الفن في شيء، ألا ترى أن الأجواق المغربية العصرية التي تعمل في محيط الموسيقى الشرقية كيف تحترم فنها وتواظب على أسلوبها الشرقي الصرف؟ فالموسيقيون وكذلك الملحّنون الذين يعملون في هذا المضمار، هم يلتزمون بأسلوبهم الغنائي في المقامات الشرقية، لا يبعدون عنها إلى غيرها؛ فهم أحرص ما يكون على روح الموسيقى التي اختاروا أن يعملوا فيها بأمانة وعملهم هذا يجعل الفنان المتذوق راضيا مرتاحا لا يجد فيهم ما يعكر صفوه، ولا يثير غيرته على الفن، فعلى إخواننا الذين يحاولون إدخال الجديد على الغناء المغربي ذي الطابع المحلي، أن يحافظوا على لونه ومتى أرادوا أشياء من ذلك، فليسمعونا كل لون من الفن على حدة محافظين على جودة الفن في طبيعة كل لون منه، وإلا كانوا كمن يخربون بيوتهم بأيديهم”.
إن مولاي العربي في هذا النص، لا يرفض المثاقفة المتكافئة التي تقوم على استثمار مرجعيات أخرى من أجل خلق كون إبداعي، لكنه يرفض التوظيف الشكلاني الذي يؤدي إلى الاستيلاب وعدم التكافؤ بين الأنا والآخر.
من العلامات الدالة على رغبته في بناء تثاقف سليم بين المرجعية المحلية (الموسيقى الأندلسية المغربية) والمرجعية الشرقية، تلحينه لميزان قائم ونصف النهاوند، بناء على فهم دقيق لمبادئ الموسيقى الأندلسية، حيث نسج ألحان هذا الميزان بناء على بنى صنعات ميزان قائم ونصف الاستهلال الذي توجد فيه بعض الصنعات التي تعطي إمكانية تحويلها لتصير بعدها من مقام النهاوند المعروف عند المغاربة بالساحلي.
ولا تفوتنا في هذا الصدد، الإشارة إلى تلحينه لميزان قائم نصف الحجاز المشرقي الذي استوحى بنياته ومساراته اللحنية من صنائع الآلة الأندلسية، وهذا ليس بغريب عن هذا الفن، حيث نجد تماثلات بنيوية بين الكثير من الصنعات، مما سنتحدث عنه بتفصيل في دراسات وأبحاث قادمة.

مجمل القول في ختام هذه الدراسة، هو أن الفنان مولاي العربي الوزاني يعدّ نموذجا مثاليا للفكر الفني المعتدل، حيث ربط بين قيم القديم وقيم الحديث في غير تنافر بينهما، مما أدى إلى بناء حداثة تحتاج إلى تطوير وإلى استيعاب جديد لنظم العصر الذي نحياه من أجل بناء استمرار دامغ في سيرورة هذا الفن الأصيل والواعد.
نشكركم على المجهود الذي تبذلونه من أجل التعريف بأعلام نسيها الإعلام بتاتا.