آراء ودراساتسلايدرمع قهوة الصباح

نظراتٌ في الدعاءِ الناصِري…في طلب الأمن حسًّا ومعنى (15)

محمد التهامي الحراق

دعما للأفق الروحاني في لحظات الابتلاء، واستحضارا لطاقة الدعاء عند الشدائد والضراء؛ كما تؤصل له المرجعية الإيمانية الجامعة بين البذل والتوكل، بين الأخذ بالأسباب وملازمة الدعاء؛ ننشر ها هنا نظرات في متن الدعاء الناصري(نسبة إلى الصوفي الكبير محمد بناصر الدرعي دفين تمكروت عام 1085هـ). ويعد هذا الدعاءُ واحدا من أشهر الأراجيز التوسلية التي اعتاد أهل المغرب استعمالها في باب التضرع عند الشدائد والمحن.
* * *

نستأنف أيها الأحباء إقامتنا في رحاب قصيدة الناصرية للإمام ابن ناصر الدرعي، حيث يواصل الشيخ ابن ناصر دعاءَه في نفس أفق المناجاة التي تقوم على بلاغة التسبيح والتضرع مما وقفنا عنده في الحلقة الماضية، ذلك أننا نُلْفِيه مركِّزا طوال هذا الدعاء على المزاوجة بين أوصاف العبد الافتقارية وأوصاف الرب الكمالية، ومستحضِرا كلَّ ما يُظهر ويُبرز حالَ الاضطرار التي تستدعي الاستجابة انطلاقا من الوعد الرباني بالاستجابة لمن يدعوه من المضطرين، والله سبحانه لا يخلف الميعاد.
و هنا يتوجه الناظم إلى مولاه بمطلب نفيس، يفتقر إليه الإنسان في حله وترحاله، إنه مطلب “الأمن”، يقول:

يا رب يا رب أنلنا الأمنا — إذا ارتحلنا وإذا أقمنا

والأمن من أهم المنن الإلهية والآلاء الربانية، قال تعالى: ” فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ”؛ ولأهميته فقد امتن الله عز وجل على قريش بهذه النعمة، فقال عز من قائل: “أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِم”؛ ولأهميته كذلك وعد سبحانه عباده المؤمنين إن هم أقاموا شرعَه أن يُبدلهم من بعد الخوف أمناً، قال تعالى: “وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِم أَمْنًا”؛ ذلك أنْ لا معنى لحياة الإنسان إذا عاش في رعب وهلع وخوف على نفسه وأهله وماله؛ أكان خوفا من الإذاية الحسية للأجساد والأموال أم خوفا من الإذاية المعنوية للنفوس والقلوب. ومعلوم أن الأمن الحقيقي المطلوب هنا أمن شامل يشمل الناس في حِلهم وترحالهم، في حضرهم وفي سفرهم ، مثلما يشملهم في حسهم ومعناهم، في مأكلهم ومشربهم وفي إيمانهم ودينهم، فهو أمن عام يتعلق بالعقيدة والدين والفكر والاقتصاد والأنفس والأعراض والأبدان.
ولبيان الأمن الذي يسأله الناظم، ومن باب الإلحاح في الدعاء، وبسط مَنَاطات الاضطرار التي يحتاج المتضرعون إلى نيل الأمن فيها، يقول الناظم:

يا رب واحفظ زرعنا وضرعنا —
و احفظ تجارنا ووفِّر جمعنا

نحن هنا إذا إزاء دعاء شامل لمناطات الأمن الاقتصادي زراعة وتجارة. وغني عن البيان أن حفظ الزرع والضرع يبدأ من تنزيل الغيث وإحياء الأرض الموات، قال تعالى: “وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَىٰ بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَٰلِكَ النُّشُورُ”؛ ثم يلي هذا، الحفظُ من التلف والاندثار، ومباركةُ الاتجار والادخار. ومن القوة الاقتصادية يتقوى الجمع، ويصبح للجماعة سند اقتصادي به يتحقق أمنُها، وتشتد قوتها. على أن الأمن الاقتصادي لا يحقق الأمن الشامل، كما أشرنا سابقا، إلا إذا اجتمع مع الأمن الروحي، لذلك يقول الناظم:

واجعل بلادنا بلاد الدين —
وراحة المحتاج والمسكين

ويتبدى الأمن الروحي هنا في طلبِ حفظ سلامةِ الدين والقيامِ بحقوق الاعتقاد وصيانة حرمات الشرع؛ إذْ لا فائدة من الأمن الاقتصادي إذا غابت القيم الدينية الناظمة والمؤطرة للتكافل الاجتماعي بين الأغنياء والفقراء، حيث تتحقق “راحة المحتاج والمسكين”؛ فبدون ذلك قد يتحول النمو الاقتصادي إلى فتنة وفُرقة تستثيرهما مختلفُ أشكال التفاوت التي قد تهدد أمن المجتمع. فيما الدين قد جاء بقيم وأخلاق وأحكام وحقوق وواجبات من شأنها أن تخلق التضامن بين الفئاتِ بدل تصارعها، فتَشيع الألفة ويسودَ الأمن، ويُنزعَ الخوف من الجماعة وعليها، في حلها و ترحالها.
على أن في هذا التضرع وعياً متميزا من لدن الشيخ ابن ناصر بشرائط الاجتماع ومقتضيات قيام العمران وإنشاء الحضارة. ومن ثم فهو تضرع يجمع بين فقه الواقع وبين فقه التوسل للحق سبحانه وتعالى، فضلا عن كونه تضرعا إيمانيا خالصا يرفُدُه يقين محض في إجارة الحق و نصرته لمن لجأ و لاذ وانحاش إليه:

أيـــــدركني ضيم و أنت وسيلتي —
وأشكو من الأسوا وأنتَ مجيري
أ أظما وأنت العذب في كل مورد —
وأظلــــم في الدنيا وأنت نصيري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

3 × 4 =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض