
نظراتٌ في الدعاءِ الناصِري…في استجلابِ السر الباطن والستر الظاهر(16)
محمد التهامي الحراق
دعما للأفق الروحاني في لحظات الابتلاء، واستحضارا لطاقة الدعاء عند الشدائد والضراء؛ كما تؤصل له المرجعية الإيمانية الجامعة بين البذل والتوكل، بين الأخذ بالأسباب وملازمة الدعاء؛ ننشر ها هنا نظرات في متن الدعاء الناصري(نسبة إلى الصوفي الكبير محمد بناصر الدرعي دفين تمكروت عام 1085هـ). ويعد هذا الدعاءُ واحدا من أشهر الأراجيز التوسلية التي اعتاد أهل المغرب استعمالها في باب التضرع عند الشدائد والمحن.
* * *
لا يُمكن أيها الأفاضل لمن يتدبر قصيدة “الناصرية” بعمقٍ إيماني إلا أن يقفَ على مدى قدرتها على مخاطبة الوجدان الديني للمؤمن، ومدى طاقتِها في تحريكِ روح الإيمان وتغذيةِ معنى اليقين لديه. فمن بيت لآخر، ومن معنى لآخر تنبسطُ نفسُ القارئ وينشرحُ صدرُه، ويزولُ عنه شيئا فشيئا كل ريبٍ أو شك في قرب الله و يقين إجابته. وهوَ المقصِدُ الأسمى الذي يسري في مختلف معاني القصيدة بألقٍ وبهاء.
وقد وصلنا في أطوار “الدعاء الناصري” ومداراتِه إلى سؤال الأمن للجماعة، أمنِ الأجساد والأرواح؛ الأمنِ في الاقتصاد والأمنِ في الدين، وهنا يضيف الناظم قائلا:
واجعل لها بين البلاد صوله —
وحرمة ومنعَة ودوله
و مقتضى هذا البيت كما أشرنا أن يُفهمَ في ضوء سابقه؛ ذلك أنه إذا ما توفر الأمنُ الاقتصادي والأمن الروحي لبلاد ما، فإن ذاك يُعد أساسا متينا كي يصبح للبلاد صولةٌ وحرمةٌ ومَنَعة؛ وهنا تكتسبُ البلاد هيبةً وشدة، وتمتلك العُدة لكي تكفَّ عنها بغي البغاة، وطمع الطامعين. وهذا البيت، من جهة أخرى، هو طلبٌ للقوة التي سبق أن شكا من الافتقارِ إليها الناظمُ بقوله:
واستضعفونا شوكة وشده —
واستنقصونا عُدة وعِده
ومن ثم يكون التضرعُ للمولى بإخراج حال الجماعة من الضعف إلى الصولة، ومن نقص العُدة إلى هيبة الحرمة والمَنَعَة؛ يكون ذلك دليلا على إيمانِ الناظم بالأسباب التي لابد من توفيقِ المولى عز وجل للأخذ بها والاهتداء إليها من جهة، مثلما يُحتاجُ لتوفيقه سبحانه لكي تُثمِرَ هذه الأسبابُ مقاصِدَها، وتبلُغَ مراميَها في دفع الضعفِ والهوانِ و الصَّغار، وجلبِ الصولة والحُرمة والمَنَعة.
ثم يقول الناظم:
واجعل من السر المصون عزها —
واجعل من الستر الجميل حرزها
إن من سلامةِ الاعتقاد وبلاغة الدعاءِ في هذا “الدعاءِ” ما نلاحظه من الوَشْجِ بين طلب الأسباب واليقين في الله، فذاك هو عينُ التوكل “وعلى الله فليتوكل المتوكلون” كما قال سبحانه. و يَظْهر اليقين هنا في أن العزَّ من سرِّ الله، والحرزَ من سترِ الله. قال تعالى: “وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ”؛ وفي الستر الجميل قال محمد بنُ أبي عمر، سمعت سفيانَ بنَ عُيَيْنَة يقول: “يُستحب للرجل إذا دعا أن يقول في دعائه: اللهم استرنا بسترك الجميل، قال سفيان: ومعنى السترِ الجميل أن يَسْتُرَ على عبده في الدنيا، ثم يستُرَ عليه في الآخرة من غير أن يُوَبِّخَه عليه “. والسترُ الجميل بهذا المعنى هو عنوانُ الصفح ورفع العتاب و عدم المؤاخذة بالذنوب، ومن ثم يكون معنى سترِ الجماعة ألا تُعاقَبَ بذنوب أهلها ولا تؤاخذ بما فعل السفهاءُ منها.
وبعد إعلان الناظم عن هذا الإقرار العميق بتكامل “السر الباطن” و”الستر الظاهر” في تحقيق العز والحرز، ها هو يستدعي واحدا من مظاهر هذا “السر المصون”؛ بل والمعجِز في القرآن الكريم، والمتمثل في الحروف القرآنية المُقَطَّعة. يقول:
واجعل بصــادٍ وبقــافٍ وبنـــون —
ألف حجابٍ من ورائهــا يكــــون
لقد حار العلماء والمفسرون في تقصي دلالات هذه الفواتِح والتقاط معانيها، حتى قالوا إنها من مبادي ومباهي الإعجاز القرآني، وأن الحق سبحانه قد استأثر بأسرارها. ومعلوم أن عدد هذه الحروف النورانية أربعةَ عشر حرفا، جمعها العلماء في قولهم: “كلامُ حقٍّ نَصْرُُه يَسْطََع”. وقد استدعى الناظم من هذه الحروف النورانية المعجزة الحروفَ المقطَّعة المَفرَدة؛ حرفَ “ص” الذي تفتتح به سورة “ص” في قوله تعالى: ” ص، وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ. بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ “، وحرفَ “ن” الذي تُفتتح به سورة القلم في قوله تعالى: ” ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ. مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ”؛ وحرفَ “ق” الذي تفتتح به سورة ق في قوله تعالى: ” ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ”.
هكذا تُستحضر في هذا البيت أسرارُ هذه الحروف المُقْسَمِ بِها في الآيات المذكورة، وتُقدَّمُ بين يدي الدعاءِ طلباً لحجابِ الستر. وهو استحضارٌ دالٌّ على عظيم العلاقة بين طَرَفَي ثنائية “السر” و”الستر” الواردة في البيت السابق؛ إذ من السرِّ الباطن يتحقق الستر الظاهر. لذا استُدعِيَت أسرار الحروف النورانية المفردة: (ص) و(ق) و(نون) طلبا لستر العباد بالستر الجميل، وحفظِ البلاد من كل الأشرار والمضار وأشكال الظلم و الإذاية.
بحفظك عذنا يا حفيظ ُوها نحـن —
دخلنا في وَسْطِ الحفظ وانسدل الحفظُ