
نظراتٌ في الدعاءِ الناصِري…في التوسل بأسباب الاستجابة(17)
محمد التهامي الحراق
دعما للأفق الروحاني في لحظات الابتلاء، واستحضارا لطاقة الدعاء عند الشدائد والضراء؛ كما تؤصل له المرجعية الإيمانية الجامعة بين البذل والتوكل، بين الأخذ بالأسباب وملازمة الدعاء؛ ننشر ها هنا نظرات في متن الدعاء الناصري(نسبة إلى الصوفي الكبير محمد بناصر الدرعي دفين تمكروت عام 1085هـ). ويعد هذا الدعاءُ واحدا من أشهر الأراجيز التوسلية التي اعتاد أهل المغرب استعمالها في باب التضرع عند الشدائد والمحن.
* * *
ما زلنا نرتع في مباهي بستان “الدعاء الناصري”، نسلُكُ فِجاجَ التضرع، ونغذِّي معنى الإلحاح في التوسل والتوجه، وهو ما يزكي الصدقَ في القصدِ واليقين في الإجابة؛ خصوصا إذا أقامَ المتوسل في مقامِ الاضطرار وآمن بأن الحق سبحانه لا يرد سؤالا يَرْفُدُه الإصرار، “وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ “.
هكذا، وبعد عرض أحوالِ الاضطرارِ التي طوقت البلاد والعباد، والتوجهِ بالدعاء الخالص والصادق والخاشع لإنقاذ البلادِِ من البغي والظلمِ والإذاية، وتمتيعِها بالأمن الاقتصادي والروحي، وبالشدة والمَنَعة والحُرمة والصَّولة، وبعد التوسل بأسرار القرآن الكريم، التي تُجملها في بلاغة وإعجازٍ الفواتحُ النورانيةُ المُقَطَّعة، و بعدَ التضرعِ بالحروف المفردة منها طلباً للستر الجميل والحجاب المنيع من كل ما قد يحيقُ بأمن البلاد الظاهر والباطن، ها هو الناظمُ يفتتح أفقا آخرَ في دعائهِ، خلالهُ يتوسل بكل المحامدِِ العظمى والفضائلِ الجليلة وأعمالِ الخير الصادرة عن الأنبياء والصلحاء والأخيار، مُصَدِّرا ثلاثةَ عشر بيتا متوالية بلازمة “بجاه”؛ أي بأفضالِ وأثرِ وبركةِ وخيرِ ما سيعرضه من مظاهرِ عظمة الحق وكلمةِ التوحيد وقدرِ النبي صلى الله عليه وسلم، وأعمالِ الخيرات والنوافل و القربات التي اجتهد فيها الصالحون والأخيارُ والمقربون.
يقول:
بجاه نور وجهك الكريمِ — وجاه سر ملكه العظيم
فنورُ وجه الحق سبحانه سرٌّ عظيم، يملأ بالأنوار ِالسماواتِ والأرض، قال تعالى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ، الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ، يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ، نُورٌ عَلَى نُورٍ، يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ، وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾؛ فهو سبحانهُ نور على نور، و هو كريم بأنوار الغيب التي لا تدركها الأبصار، مثلما هو كريم بأنوار الهداية و الرسالة، قال تعالى: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ﴾. ومن هذه الأنوار يسْتَمِدُّ المؤمنون و يستزيدون: ﴿نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ، يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾. و بأنوار الغيب و الملكوت يُشرقُ المُلْكِ الإلهي العظيم في عالم المُلكِ والشهادة، لذا يَتَوسل الناظم بجاه النور الكريم و سر الملك العظيم، أي يتوسلُ بعظمة المُلْكِ و الملكوت، ﴿فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾.
ثم يقول:
وجاه لا إله إلا الله — وجاه خير الخلق يا رباه
جمعَ الشيخ ابن ناصر الدرعي في هذا البيت الدعاءَ بسر الشهادتين “لا إله إلا الله” في الصدر و “محمد رسول الله” في العجز. و معلوم أن شهادة التوحيد هي مناط العلم بالله سبحانه لقوله تعالى: “واعلم أنه لا إله إلا الله “، فضلا عن كونها أفضلَ ما جاء به الأنبياء، قال صلى الله عليه وسلم: “أفضلُ ما قلتُ أنا والنبيئون من قبلي لا إله إلا الله”، فهي مدار رسالةِ التوحيد التي بُعث به سائر الأنبياء. أما توسل الناظم بالشطر الثاني من شهادتَي الإسلام، فقد نعتَ فيه رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بخير الخلق أجمعهم، لقوله عليه السلام: “أنا سَيِّدُ ولدِ آدم ولا فخر”. و قد فُضِّلَ المصطفى صلى الله عليه و سلم بمزايا عديدة فهو حبيب الله و خاتِم الرسل وحاملُ لواء الشفاعة يومَ النشور، ﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾، و قال سبحانه أيضا: ﴿ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيئِينَ عَلَى بَعْضٍ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا﴾.
و إلى هذا التفضيل المحمدي أشار الإمام البوصيري في “بردته” فقال:
فمبلغ العلــم فيه أنه بـشر —
وأنه خير خلق الله كلهمِ
وكل آي أتى الرسل الكرام بها —
فإنما اتصلت من نوره بهمِ
لذا، ولَما كان الفضل الأعظم قد حازه الفجرُ الأعظم صلى الله عليه وسلم، وكانت أنوارُ الهداية التي جاءت بها كل الرسل مدارها حول ما جاء ليُتِمَّهُ ويختمهُ صلى الله عليه وسلم ، انتقل الناظم ليتضرع بما تضرع به سائر الأنبياء وسائر الأولياء. فقال:
وجــاهِ مــا بــه دعــــاك الأنبيــا —
وجـاه مــا به دعـــاك الأوليــــا
قد دعا الأنبياءُ الله مخلِصِين في أحوال شتى، فاستجاب لهم المولى، وصارت أدعيتُهم عنوانَ الدعاءِ المستجاب لدى سائر الخلق، ومن هذه النماذج النبوية نشير إلى مثالَي نبي الله أيوب ونبي الله يونس عليهما السلام: قال تعالى: “وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُر”؛ وقال سبحانه:” وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لّا إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ، وَكَذَلِكَ نُنجي المؤمنين”. أما الأولياء والصلحاء فقد سارت “مُنَاجَيَاتهم” وأدعيتُهم وتضرعاتُهم المأثورةُ عنوانَ صلاحٍ و تنسك و تهجدٍ و تبتل بالأسحار وفي الخلوات؛ ومدارُ كلِّ توسلاتِهم وأدعيتِهم كلمةُ التوحيد، فمنها استمدادُهم وعليها مُعَوَّلُهُمْ.
فيها الفوز والنجــاةْ فيها كل البركـات تُنجي من كل الآفات
لا إلــــــــه إلا الله