آراء ودراساتسلايدرمع قهوة الصباح

نظراتٌ في الدعاءِ الناصِري…في “الأبيات الجاهية”(18)

محمد التهامي الحراق

دعما للأفق الروحاني في لحظات الابتلاء، واستحضارا لطاقة الدعاء عند الشدائد والضراء؛ كما تؤصل له المرجعية الإيمانية الجامعة بين البذل والتوكل، بين الأخذ بالأسباب وملازمة الدعاء؛ ننشر ها هنا نظرات في متن الدعاء الناصري(نسبة إلى الصوفي الكبير محمد بناصر الدرعي دفين تمكروت عام 1085هـ). ويعد هذا الدعاءُ واحدا من أشهر الأراجيز التوسلية التي اعتاد أهل المغرب استعمالها في باب التضرع عند الشدائد والمحن.
* * *

و تتوالى المعاني والدلالات التي يُشيِّدُ بها الإمام ابنُ ناصر الدرعي “دعاءهُ”، ليزداد الخاطِرُ استرواحا، والقلب اطمئنانا، واللبُّ تنويرا وهداية. هكذا يبدو أن الرحلة في جغرافية “الدعاء الناصري” تجعل المسافرَ يكتشف صدق توجه سيدي محمد بن ناصر وإخلاصَه في الدعاء، واستفراغَه للجهد في التوسل إلى الحق سبحانه بشتى أساليبِ التوسل والتبتل والتضرع. وهو ما جعل هذا الدعاءَ يصبح لسان الضارعين للحق سبحانه، لِما احتواه من درر ونفائس في التعبير عن معاني الاضطرار وأحوال الافتقار والإلحاح في السؤال.
وها هو الناظم قد وصلَ إلى “الأبياتِ الجاهية”؛ أي الأبياتِ التي يُصدِّرُها بلفظ “وجاه”؛ وهي ثلاثةَ عشر بيتا تَسْتحضر كلَّ مظاهر عظمةِ الحق سبحانه وعظمةِ ما تقرب به إليه المتقربون. وهو ما يجعل من الدعاء الناصري لحظةً مشرقة في تاريخِ الأدعية، وعلامةً متميزة في ديوان متون التضرع والابتهال، وكنا وصلنا عند قوله:

وجاه ما به دعاك الأنبيا —
وجاه ما به دعاك الأوليا

وقفنا سابقا عند نماذجَ من أدعية الأنبياء عليهم السلام في القرآن الكريم، و أشرنا إشارةً عابرةً لأدعية الأولياء. ولمزيد إضاءة نقول إن الأولياء قوم تولاهم الله بالعنايةِ والرعايةِ والولاية لِمَا تحلَّوا به من تقوى وورعٍ وصدقِ عمل، قال تعالى: “أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ، لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ، ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ”؛ بل إنه سبحانه قد آذن بالحرب من عاداهم، حيثُ جاء في الحديث القدسي: “من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب”. ولعل أبرز سمة لأهل الولاية و الصلاحِ هي الإخلاصُ في التوجه و التنسكِ والقصد و العبادة، قال تعالى: ” أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ”، وقال أيضا: “وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ”؛ ذلك أن روحَ الأعمالِ الصالحة هو وجودُ الإخلاصِ فيها، قال ابن عطاء الله في “حِكَمه”: “الأعمالُ صور قائمة وأرواحها وجودُ سرِّ الإخلاصِ فيها”. والأولياء لمَّا ساروا على سَنَنِ الأنبياء، وأخلصوا في العبادة وطلب المعرفة والمحبة، أُُلهِموا من الأدعيةِ والتضرعاتِ ما يُنْبِئُ عن خالصِ تقواهم و صدق أحوالهم، فصارت تلك الأدعيةُ زادَ المؤمنينَ في التبتل و التوسل والتضرع.، وقد رأوا من أسرارها وعجائبها ما جعلهم يدأبون عليها ويرفعون أكفَّ الضراعة بها. لأجل ذلك يستحضرُ الناظمُ أعمالَ هؤلاء الصلحاء و أقدارَهم عند اللهِ سبحانه، مستعمِلا معجم أهلِ التصوف في توصيف مختلفِ مراتب الأولياء و مراقيه.
ثم يقول الناظم:

وجاه قدر القطب والأوتادِ —
وجاه حال الجَرْسِ والأفرادِ
وجاه الأخيارِ و جاه النُّجبا —
وجاه الأبدال و جاه النقبا
وجاه كل عــابد وذاكر —
وجاه كل حامد و شاكر

إن الناظم إذ يستحضر جاهَ مختلفِ مراتبِ الأولياء وأصنافهم، فإنما يستحضر ما نالُوه من قدْرٍ عند الله سبحانه، مثلما يستحضر قدْرَ أعمالهم في التهجد والتبتل والتنسك والتقرب من الله. ومعلوم أن الدعاء بالعمل الصالح من دواعي الاستجابة، كما تشير إلى ذلك تلك القصةُ الواردة، والتي أغلَقت فيها صخرةٌ عظيمة غارا على أصحابها. ففي روايةٍ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “بينما ثلاثةُ نفر ممن كان قبلَكُم يمشون إذ أصابهم مطر، فأَوَوْا إلى غارٍ فانطبق عليهم، فقال بعضهم لبعض إنه والله يا هؤلاء لا ينجيكم إلا الصدق، فليدْعُ كلُّ رجل منكم بما يعلم أنه قد صدق فيه. فقال واحد منهم: اللهم إن كنتَ تعلم أنه كان لي أجيرٌ عمِلَ لي على فَرَقٍ مِن أَرَزٍ فذهب وتركه، وأنِّي عمِدت إلى ذلك الفَرَق فزرعته فصار من أمره أني اشتريت منه بقرا، وأنه أتاني يطلبُ أجرَه فقلت له اعمد إلى تلك البقرِ فسُقْها، فقال لي إنما لي عندك فَرَق مِن أَرَز، فقلتُ له: اعمَد إلى تلك البقر فإنها من ذلك الفَرَق فساقها، فإن كنتَ تعلم أني فعلتُ ذلك من خشيتك ففرِّج عنا، فانساحت عنهم الصخرة. فقال الآخر: اللهم إن كنتَ تعلمُ أنه كان لي أبوان شيخان كبيران، فكنتُ آتيهما كلَّ ليلة بلبن غنم لي، فأبطأتُ عليهما ليلةً فجئت وقد رقدا وأهلي وعيالي يتضاغَوْنَ من الجوع، فكنتُ لا أسقيهم حتى يشرَبَ أبواي، فكرهتُ أن أوقظهما، وكرهت أن أدعهما فيستكنا لشُربتهما، فلم أزل أنتظر حتى طلع الفجر، فإن كنتَ تعلم أني فعلتُ ذلك من خشيتك ففرِّج عنا، فانساحت عنهم الصخرةُ حتى نظروا إلى السماء. فقال الآخر: اللهم إن كنتَ تعلم أنه كان لي ابنةُ عمٍّ مِن أحبِّ الناس إليّ، وأني راودتُها عن نفسها فأبت إلا أن آتيها بمائةِ دينار، فطلبتُها حتى قدَرْتُ، فأتيتها بها فدفعتها إليها، فأمكنتني من نفسها، فلما قَعَدْتُ بين رجليها فقالت: اتقِ الله ولا تفُضَّ الخاتَم إلا بحقِّه، فقمتُ وتركتُ المائة دينار، فإن كنتَ تعلمُ أني فعلتُ ذلك من خشيتك ففرِّجْ عنَّا، ففرَّجَ الله عنهم فخرجوا”.
ومن ثمَّ فإن استحضارَ الناظم لسائر أصناف الأولياء، و كذا للعابدين والذاكرين والحامدين والشاكرين، إنما هو استحضارٌ لفضائلِ أعمالهم من قيام و صيام و صدقات وورَع وزهد وإيثار و إخلاص في الذكر و الحمد و الشكر…و هي فضائلُ ذاتُ أثرٍ عظيمٍ في الدعاء و في استجابة الحق سبحانَه له وإجابتِه. فاستحضارُ أعمالِ الواصلين من أهل اليقين يجدِّدَ إيمان الطالبين و يغذي يقينهم في رب العالمين.
للواصلــــــــــينْ فــــــــــــي كل حــــــينْ عــــينُ اليقــــــــــــــينْ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

واحد × 4 =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض