آراء ودراساتسلايدرمع قهوة الصباح

نظراتٌ في الدعاءِ الناصِري…في اللوذ بالمقربين والتوسل بالقربات(19)

محمد التهامي الحراق

دعما للأفق الروحاني في لحظات الابتلاء، واستحضارا لطاقة الدعاء عند الشدائد والضراء؛ كما تؤصل له المرجعية الإيمانية الجامعة بين البذل والتوكل، بين الأخذ بالأسباب وملازمة الدعاء؛ ننشر ها هنا نظرات في متن الدعاء الناصري(نسبة إلى الصوفي الكبير محمد بناصر الدرعي دفين تمكروت عام 1085هـ). ويعد هذا الدعاءُ واحدا من أشهر الأراجيز التوسلية التي اعتاد أهل المغرب استعمالها في باب التضرع عند الشدائد والمحن.
* * *
إنَّ كلَّ مَنْ أَطلَق الحقُّ لسانَه للطلبِ يتوقُ إلى عباراتٍ وأساليبَ في التضرع تقولُ بعضَ القول أحوالَهُ، وتكشف عن سؤالِه، وتُفرج عن قوة إلحاحِه في طلبه. و”الدعاء الناصري”، بفضل تماسكِ بنائه وعمق دلالاته، قد فتح بابا رحبا لتلبيةِ هذه الحاجة والاستجابة لهذا التَّوْقِ. وهذا ما يُفسر إقبالَ الناس على حفظه وترديده والتأثر لتوسلاته وتضرعاته، وهو إقبال دالٌّ على صدقِ الشيخ ابن الناصر وسلامة قلبه؛ ذلك أن “كلَّ كلامٍ يبرزُ وعليه كسوةُ القلب الذي منه بَرَز” كما جاء في “الحِكَم العطائية”.
وقد وصلنا في رحلتنا مع تضرعات الشيخ ابن ناصر إلى ما سميناه في الحلقات الماضية بـ”الأبياتِ الجاهية”؛ أي تلك الأبيات التي يتضرع فيها الناظم بـ”جاه” أفضلِ الأعمال والقرباتِ التي تَقرب بها الأنبياءُ والصالحون والأخيار من الرب الكريم الغفار. وها هنا يواصل على نفس النهج فيقول:

وجاهِ كل من رفعت قدره — ممن سترتَ أو نشرتَ ذكره

إن للعلماءِ مكانةً رفيعةً عند الله، قال تعالى: “يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير”ٌ، وفي البيت المذكور استدعاءٌ للقدْرِ الرفيع للعلماء، أكانوا علماءَ ظاهرٍ أم علماءَ باطن ممن لهم جاهٌ عند الله سبحانه؛ إذ مَا رفع الحقُّ سبحانه قدرَهم لديه إلا لِما خصهم به من محبته وأُنْسِه، ولِما وهبهم إياه من مواهبِ الرضا والقبول.
وما كانتِ هذه المواهبُ لتنبجسَ على ظواهرهِم وبواطنِهِم لولا ما تحققوا به من أوصافِ العبودية وصحَّحَوه من حال الفاقة والافتقار، يقول ابن عطاء الله في “حِكَمِه”: “إذا أردتَ وُرُودَ المواهبِ عليك، صحِّحِ الفقرَ والفاقةَ لديك، “إنمَا الصدقاتُ للفقراء والمساكين””. وهؤلاء المحبوبون الموهوبون بمواهب الرضا والقبول ممن رفع الحق شأنَهم صنفان: صِنفٌ نَشرَ الله ذكرَه وصِنْفٌ سترَ أمره. ذلك أن الله سبحانه مثلما فتح على البعضِ فتوحا ظاهرةً، وكسا بعضَهم كِسوة البهاء، فأظهرهم للناس، وزرع في الخلق محبَّتَهم فصاروا يُقْبِلُون عليهم، فتحَ على آخرين فتوحاً باطنيَةً فأخفاهُم بين الناس إخفاءَهُ سبحانه لساعةِ الاستجابة يومَ الجمعة، ولِليلةِ القدر في العشرِ الأواخر من رمضان. فهُم عبادٌ مُخْلَصون لا تُنْبِِى ظواهِرُهُم عن نفيسِ بواطنهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: “رُبَّ أَشْعَثَ أَغْيَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ”. فمثلُ هؤلاء قد ضَنَّ سبحانَه بهم عن غيرِ أهلِهِم، واستأثرهُمْ لنفسهِ أوللخواص من عباده. قال أحد العارفين: “لله سبحانه وتعالى عبادٌ ضَنَّ بهم على العامة وأظهرهُم للخاصة، فلا يعرفهم إلا شَكْلٌ مثلُهم أو مُحِبٌّ لهم، ولله تعالى عبادٌ ضَنَّ بهم على العامة والخاصة، وعبادٌ أظهرهم للخاصة والعامة”.
ولِعلم الشيخ ابن ناصر بسائرِ هذه الأصناف، فقد دعا بمنْ رفعَ الحقُّ قدرهُم لديه، وقَرَّبهم سبحانه إليه، أكانوا ممن نَشَرَ ذكرهم أم كانوا ممن ستَرَ وأخفى أمرَهُم.
ثم يقول الناظم:

وجاهِ كـل واقـفٍ وطائـفْ — وجـاه كـل عاكـفٍ وخائــفْ
وجـاه كل رائـحٍ وغــادِي — وجـاهِ أهلِ الـزحفِ في الـجهـاد

هذان البيتان ممَّا انفردت به بعض الروايات، وهما يسيران في نفس أفق “الأبيات الجاهِيَّة”، وخلالهما يستحضِر الناظمُ من أفعال القرباتِ الطوافَ بالبيت الحرام، والوقوفَ بجبل عرفة، و الزهَد في ملاهي الدنيا، والخوفَ و الخشية من الله؛ مثلما يستحضر بذلَ أهلِ الجهاد الذين باعوا أنفسَهم لله سبحانه. وهنا يجمع الناظم في هذه القرباتِ بين الرجاء والخوف؛ بين رجاءِ “الطائف بالكعبة والواقف بعرفة”، وخوفِ “الزاهد في الدنيا والخائف من هول يوم الحساب”. كما يجمع بين الجهاد الأصغر في ساحات الوغى، وبين الجهاد الأكبر في تربية النفس و تزكيتها، بتزهيدها في أهوائها و رعوناتها.
وكلُّ هؤلاء المجاهدين بأنفسهم وفي أنفسهم أهلُ صلاح و قُربات، و دعاؤهُم مجاب مستجاب، وَعَدهم بذلك المولَى سبحانه حينَ خاطب آحادَهُمْ في الحديثِ القدسي فقال: ” لئنْ سألنِي لأُعْطيَنَّه، ولئنْ استعاذنِي لأُعِيذنَّه “. وهذا الوعد هو ثمرة من ثمرات صدقهم ويقينهم.

أنت بالصدقِ قد خبَرْت رجــــالَا — قد أطالُوا البُكا إذا الليل طَـــــالا
وملأتَ القلوبَ منهــــــمْ بنــــورٍٍ — ونفيسِ اليقــــــينِ يا من تعـــالا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تسعة − 7 =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض