آراء ودراساتسلايدرمع قهوة الصباح

نظراتٌ في الدعاءِ الناصِري…في التضرع بصلاح الأعمال وتسبيحات الأكوان(20)

محمد التهامي الحراق

دعما للأفق الروحاني في لحظات الابتلاء، واستحضارا لطاقة الدعاء عند الشدائد والضراء؛ كما تؤصل له المرجعية الإيمانية الجامعة بين البذل والتوكل، بين الأخذ بالأسباب وملازمة الدعاء؛ ننشر ها هنا نظرات في متن الدعاء الناصري(نسبة إلى الصوفي الكبير محمد بناصر الدرعي دفين تمكروت عام 1085هـ). ويعد هذا الدعاءُ واحدا من أشهر الأراجيز التوسلية التي اعتاد أهل المغرب استعمالها في باب التضرع عند الشدائد والمحن.
* * *

لا يسَعُ المُواكِبَ لأبياتِ و دلالاتِ “دعاء” الإمام ابن ناصر الدرعي إلاَّ أن يُقِرَّ بتنوعِ روافدِ علمهِ، وجمْعِهِ بين العلم والأدب والتجربة الذوقية، إذ كلُّ بيتٍ ينطقُ بهذا التعدد ويكشفُ عن هذا التنوع. وتجدهُ بين الفينةِ والأخرى يستعمل إشراقاتٍ ذوقيةً صوفيةً في نَظم أبياتهِ مما يعطي لهذا الدعاء نفساً روحيا خاصا، ويمنحهُ قدرة هائلة على تلخيص الغزير من المَعنى في مُختصَرٍ مِن المبنى. ومن يداوم على تأمل “الدعاء الناصري” وتدبر معانيه وإشاراته، يستشعر ما يكتنزه هذا الدعاءُ من أنوار وأسرار، بحيث يرتقي بالمتضرعِ إلى مقام المناجاة حيث لذة الدعاء وبهاءُ المُسَارَرَة.
وفي “الأبياتِ الجاهية” التي ما زلنا في ضيافتها، نُصغي إلى بيتين آخَرَين من الأبيات الخمسة التي انفردت بها بعض روايات هذا الدعاء دون غيرها، يقول الشيخ ابن ناصر فيهما:

وجـاه كلِّ عـالـِمٍ وناصـحْ —
وجـاه كـلِّ سائـحٍ وصالــحْ
وجـاهِ كلِّ مجذوبٍ وسالـِكْ —
وجـاهِ كـل واقـفٍ ببـابِـكْ
وهنا يستأنفُ الناظمُ أسلوبَه في استدعاء شأوِ أهل العلم والصلاح، وتعديدِ المناقب التي صارت لهم ألقابا ونعوتا، مما يعني أن الأمرَ يتعلقُ باستدعاء ما قدموه من أعمالٍ صالحة بِها نالوا الرفعةَ والقربَ من رب الأرباب؛ من علمٍ ونُصح وصلاحٍ وسياحةٍ في سبيل إعلاءِ كلمة الله والدعوة إلى عبادته وتقواه. وقد استوفى الناظمُ ذكرَ كلِّ أصنافِ الصالحين، سواءٌ من نالوا مقامَ القربِ بالعلم الظاهر ونُصْحِ الخلائق، أو من نالوه بصلاح الباطنِ والعِلْم اللَّدني؛ وسواء من سلكوا إلى الحق سبحانه بالبذل والعبادة والرياضات الروحية؛ أو من جَذَبهُمُ الحقُّ إلى حضرتِه بِلا تعمُّل ولا كسب؛ بل بمحضٍ اجتباء منه سبحانه واصطفاء.
ويقول الناظم:

وجـاه ما دارتْ بـه الأفـلاكُ —
وجـاه مـا ذاعت به الأمـلاكُ

إن الأفلاكَ السَّابحةَ من آيات الله سبحانه، قال تعالى: “وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا، ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ* وَالْقَمَرُ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ، وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ”.
ففي أفلاكِ السماواتِ و مداراتِها آياتٌ لأولي الألباب، فهي من مجالي عظمةِ الخالق، وبديع صنعه ومُحْكَمِ إتقانه، فسبحان”الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ” ؛ و”تباركَ اللهُ أحسنُ الخالِقِين”. واستحضارُ “ما دارت به الأفلاك” استحضارٌ لعظمة آيات الخلق، وكذا لتسبيحات هذه المخلوقات للحق. قال تعالى: ” تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ “. وهذا التسبيح أمرٌ مشترَك بين الأفلاك والأملاك، قال تعالى: “وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ”. فمعلوم أن الملائكةَ كائناتٌ نورانية، وهم أعظمُ جنودِ الرب سبحانه، “عِبادٌ مُكْرَمُونَ ،لا يَسبِقونَهُ بالقولِ وهُمْ بأمرِهِ يَعملونَ، يعلمُ مَا بينَ أيديهِمْ ومَا خَلفَهُمْ، ولا يَشفعونَ إلا لِمَنِ ارتضى وهُمْ مِنْ خشيتِهِ مُشفقونَ، لا يَعصونَ اللهَ مَا أمرَهُمْ ويَفعلونَ مَا يُؤمرون، َلا يستكبرونَ عَنْ عبادَتِهِ ولا يَسْتَحْسِرُونَ، يُسَبِّحُونَ الليلَ والنَّهارَ لا يَفْتُرُون”.
على أن استحضار الناظمِ لمجالِي عظمة الخالق في الأفلاك والملاك هو وجه من أوجه التسبيح له سبحانه، والإقرارِ بجلاله وعظيم سلطانه، وهو تسبيح يقترنُ بالتضرع على طول الدعاء الناصري ليكون رافِدا له وموجِبا للقبول والاستجابة. و ما استِدْعَاءُ صلاحِ الصلحاء في هذا الدعاء إلا لما كانوا عليه من تهجد و قيام و مواظبة على التسبيح بالأسحار.

من أول الليل قد ســـــارت عزائمهـــم —
وفي خيام حمى المحبوب قد نزلـوا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

18 − 4 =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض