آراء ودراساتسلايدرمع قهوة الصباح

نظراتٌ في الدعاءِ الناصِري…في الاستصراخ باسمه الأعظم وآيات كتابه المحكم(21)

محمد التهامي الحراق

دعما للأفق الروحاني في لحظات الابتلاء، واستحضارا لطاقة الدعاء عند الشدائد والضراء؛ كما تؤصل له المرجعية الإيمانية الجامعة بين البذل والتوكل، بين الأخذ بالأسباب وملازمة الدعاء؛ ننشر ها هنا نظرات في متن الدعاء الناصري(نسبة إلى الصوفي الكبير محمد بناصر الدرعي دفين تمكروت عام 1085هـ). ويعد هذا الدعاءُ واحدا من أشهر الأراجيز التوسلية التي اعتاد أهل المغرب استعمالها في باب التضرع عند الشدائد والمحن.
* * *

مازلنا ضيوفاً على قصيدةِ الناصرية للإمامِ ابنِ ناصر الدرعي، حيث إن المتشبع بِنَفَس الشيخ ابن ناصر في “دعائه”، سيكتشف طولَ هذا النَّفَس وسمُوَّه، بل واستمدادَه من يقين صادق، وإيمانٍ راسخ، و ظن بالله جميل، وإقامةٍ روحية نُسُكية في الإلحاح. ويظهر هنا هذا الإلحاحُ في الدعاء في استجماع أنماط الفضائل وأنواع الصلاح وأوجه القربات للاستغاثة والتوسل بأفضالها وشأوها عند الله. استجماعٌ بقدر ما يُبرز صدق التضرع والابتهالِ بقدر ما يبرز مكانة المتضرعِ وموسوعيتَه العلمية ورفعةَ تجربته في التزكية الروحية.
وتتويجا “للأبياتِ الجَاهِيَّة” التي كانت العنوانَ الأبرز للاستجماع المذكور، يستحضرُ الناظم هنا الكتابَ الحكيم وآياته المعجزة؛ إذ هي أصل سائرِ الفضائل الأخرى، مثلما يستحضر عظمة اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى، وإذا استرحِم به رحِم، وإذا استغفر به غفَر. يقول الناظم:

وجاهِ آيات الكتـــــابِ المُحكـــــمِ —
وجاه الاسم الأعظــــم المعظــمِ

و هنا يتضرع الناظم بالجاه العظيم لآيات الكتاب الحكيم، قال تعالى في أول سورة هود: ﴿بسم الله الرحمن الرحيم، ألر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾، ومعلومٌ أن من أماراتِ هذا الإحكام أن جاءت الآياتُ البينات معجزةً للإنس والجن، قال سبحانه: “قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا”؛ إنه إحكام لا قِبَلَ للبشرِ و الجنِّ به، فيما خلاص دنياهم وأُخراهمْ في تفاصيله، الأمر الذي بيَّنهُ رسول الله صلى الله عليه و سلم في الحديث الذي رواه علي بنُ أبي طالب كرم الله وجه، قال، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: “كتابُ الله فيه خبرُ ما قبلَكم، ونبأُ ما بعدَكم، وحُكْم ما بينِكم، هو الفصلُ ليس بالهزل، هو الذي لا تزيغُ به الأهواء، ولا يشبع منه العلماء، ولا يَخْلَق عن كثرة رد، ولا تنقضي عجائِبُه، هو الذي من تركه من جبَّار قصمه الله، ومن ابتغى الهُدى في غيره أضلَّه الله، هو حبلُ الله المتين وهو الذكر الحكيم… “؛ إلى آخر الحديث، ومن ثمَّ كانت المعجزة القرآنية من أعظم ما يقدم المتضرِّع بين يدي دعائه رغبة في استجابة الطلب و إجابةِ السؤال.
أما الاسم الأعظم الذي توسل به الناظم في عجز البيت، في قوله “و جاه الاسم الأعظم المعظم”، فالراجح عند جم من العلماء أنه هو الاسم المفرد “الله”، قال تعالى: ” قُلِ اللَّهُ ۖ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ “. وقد ذُكر الاسم المفردُ في القرآن العزيز في ألفينِ وثلاثِمائة وستين موضعاً؛ فيما نجد عددا آخر من العلماء والعارفين والمفسرين قد اختلفوا في تعيين ماهية الاسم الأعظم؛ بل إن منهم من اعتبره اسما مكنونا وكنزا مخزونا. على أن الثابت أن الدعاء به مجاب ومستجاب؛ فالحق سبحانه لا يرد من به دعا واستجار. فعن أنس رضي الله عنه قال: ” كنت جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد ورجل يصلي فقال: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت، الحنان المنان، بديعَ السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم أسألك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعا اللهَ باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سُئل به أعطى”.
ثم يُرْدِف الشيخ ابن ناصر هذا التضرعَ العظيم بآيات الكتاب الحكيم وبالاسم العظيم المعظم، بقوله:

يارب يا رب وقفنا فقرا —
بين يديك ضعفاء حقرا

وهنا يرجع إلى التأكيد على حال الافتقار التي تُميز أهل الاضطرار. نقرأ في القرآن الكريم دعاءَ موسى عليه السلام: ﴿رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾. على أن هذا التحلي بصفة الفقر إزَاء الرب الغني هو من التخلقاتِ التي تُسَرِّع في بسط مواهب الحق على العبد، يقول ابن عطاء الله السكندري في “حِكمه”: ” مَا طَلَبَ لَكَ شَيْءٌ مِثْلُ الاضْطِرَارِ، وَلَا أَسْرَعَ بِالْمَوَاهِبِ إِلَيْكَ مِثْلُ الذُّلِّ وَالافْتِقَارِ”. أي ما طلب لك أيها المتضرع لله تعالى شيءٌ مثلُ الاضطرارِ إليه؛ إذ به تقع الإجابة لقوله سبحانه “أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ”، فيما الذلةُ والافتقار أمران موجبان لإسراع مواهب الحق تعالى إلى العبد المتصف بهما، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: “لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمُ أَذِلَّةٌ”.
وهذا التخلق بالفقر (يا رب يارب وقفنا فقرا) و الذلةِ ( بين يديك ضعفاء حقرا) بما هما وصفين من أبرز أوصاف العبودية هو تعلق بنعتين من نعوت الربوبية، هما الغنى و العزة. و عبرَ هذا التعلق و ذاك التخلق مهَّد الناظم لسلسلة من أبيات توسلية ختامية، خلالها يحافظ على المناجاة مع الخالق سبحانه؛ و القائمةِ على التعظيم و اليقين مع ملازمة الإلحاح في الدعاء، يقول الناظم في مفتتح هذه السلسلة:

وقد دعوناك دعاء من دعا —
ربا كريما لا يرد من سعا
و حاشا سبحانه يُخيِّبُ أو يرُدُّ من قدَّم بين يدي دعائه اسمَه الأعظم و آيات كتابه المُحْكَم، تلك الآيات التي برع الإمام البوصيري في وصف صفتها لما قال:

آيــاتُ حَقٍّ مِنَ الرحمنِ مُحدَثَــةٌ —
قــديمَةٌ صِفَةُ الموصــوفِ بالقِـدَمِ
لم تَقتَرِن بزمـــانٍ وَهْيَ تُخبِرُنــا —
عَنِ المَعَـــادِ وعَن عـادٍ وعَن إرَمِ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

1 + 9 =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض