آراء ودراساتسلايدرمع قهوة الصباح

نظراتٌ في الدعاءِ الناصِري…الرجاء في فضله والخوف من عدله (22)

محمد التهامي الحراق

دعما للأفق الروحاني في لحظات الابتلاء، واستحضارا لطاقة الدعاء عند الشدائد والضراء؛ كما تؤصل له المرجعية الإيمانية الجامعة بين البذل والتوكل، بين الأخذ بالأسباب وملازمة الدعاء؛ ننشر ها هنا نظرات في متن الدعاء الناصري(نسبة إلى الصوفي الكبير محمد بناصر الدرعي دفين تمكروت عام 1085هـ). ويعد هذا الدعاءُ واحدا من أشهر الأراجيز التوسلية التي اعتاد أهل المغرب استعمالها في باب التضرع عند الشدائد والمحن.
* * *

بساطُ “الدعاء الناصري” رحب، وكلامهُ مثلَ ماء المطر قريبُ العهد بربه؛ يصدر عن قلب خاشع، وجفن دامع، وجسد راكع.. دعاء يتلذذ بنُسْغِ الإلحاح، ويقيم في معنى الاضطرار متقينا بقرب الاستجابة والإجابة؛ لاسيما وأنه مبني على الاعتقاد الجازم بأن قبولَ الدعاء هو محضُ تفضل وإنعام وإحسان من الحق سبحانه؛ أما المعاملةُ بالعدل والحساب فلا مَحالةٌ مفضيةٌ بالمرء للهلاك قال تعالى: “وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ”، ويقول الشيخ الحراق مقتبسا هذه الآية:

رب غفور لو يؤاخذ خلقه —
لم يبق ديارا من الأحيـاء
لكنه غمرَ الجميع بجـوده —
والحلم يرغم أنفس اللؤماء

المُعَوَّل، إذن، على إحسانِ الحق لا على ميزانه، على رحمتِه لا على حسابه؛ على فضله لا على عدله؛ ذلك أنه سبحانه، وكما قال يحيى بنُ معاذ رضي الله عنه: “إن وَضَعَ عليهم عدلَه لم تبق لهُم حسنة، وإن نالهم فضلُه لم تبق لهم سيئة”. وهو ما أشار إليه صاحب “الحكم العطائية” بقوله: “لا صغيرة إذا قابلك بعدلِه، ولا كبيرة إذا واجهك بفضله”؛ لأجل هذا يدعو الناظم فيقول:

فاقبل دعاءنا بمحض الفضل —
قبول من ألغى حساب العدل

ولما كان القبول من الحق لعبده واستجابته لدعائه محض تفضل وتكرم وإحسان؛ كان هذا القبولُ مِنَّةً يتكرم بها الكريم، وعطفةً يتعطف بها الحليم؛ بل إن من علامات ذينِكَ القبولِ والامتنان أن أطلق سبحانه لسانَ المتضرع للسؤال، ألم يقل سيدنا عمر بنُ الخطاب رضي الله عنه: “إني لا أحمل همَّ الإجابة، وإنما أحمل هم الدعاء، فإذا أُلهمتُ الدعاء فإن الإجابةَ معه”؛ و هو المعنى ذاتُه الذي أشار إليه صاحب “الحكم العطائية” بقوله:” متى أطلق لسانكَ بالطلب فاعلم أنه يريدُ أن يعطيك”؛ أي متى حل مولاك عقدة لسانك وأشهدَكَ فقرَك وفاقتك حتى دعوتَه بلسان الاضطرار؛ متى حصل ذلك فاعلم أنه سبحانه يريد أن يعطيك لصدق الوعد بإجابة دعاء المضطر. وما ألطف قول بعضِ العارفين:

لوْ لمْ ترد نيلَ ما أرجوه من طلبٍ —
من فيضِ جودك ما ألهمتني الطَّلَبَا

وفي الحديث الشريف : ” من أُعْطِيَ الدعاء لم يُحرم الإجابة ” .

وإن مما يزيد من بهاء “الدعاء الناصري” أنه سُكب في لغة وإيقاع رفيعين، وسُبك في معمار وبناء بديعين؛ يظهر ذلك في تقابل الكلمات وتوازي البنية النحوية بين صدر البيت وعجزه؛ فضلا عن العمقِ الروحي الأصيل الذي يكفُلُه استدعاء أسماءُ الله الحسنى وما تحققه من لذة المخاطبة والمناجاة في هذا الدعاء. هكذا يستحضر الناظم رحمانيةَ ورحموتية الرحيم الرحمان باعتبارها رحمةً واسعةً بلا ساحل أو حد أو شط؛ قال تعالى:” “فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ””؛ مثلما يستحضر كرمَ الكريم وتفضلَه بالإنعام على عَبِيده، قال تعالى: “وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا”. فالعبد فقير إلى آلاء ربه ومفتقِر إلى رحمته ونعمائه الحسية والمعنوية. لذا متى ما تحقق هذا العبد بحقيقة أوصاف العبودية من فقر وذل وحاجة، وتَعَلَّق بنقائضها من أوصاف الكمال الإلهي، ثم استجاب لما جاء به الشرعُ الحكيم من عقائد وعبادات وأخلاق ومعاملات، فإن الاستجابة لا محالة حاصلةٌ بحُكم الوعد الإلهي، فهو سبحانه لا يخلف الميعاد، قال تعالى: ” وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ”، وقوله سبحانه: “وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ”، وهذا اليقين في الاستجابة هو ما أشارَ إليه ببلاغة دالة الشاعر عبد الكريم بقاش في قوله:

توجــــــه إلى مـــــولاك بالذلِّ راجيـا —
له ضارعا واعـبدْ إلهـك واقـــتربْ
فحــــــــاشا وكلا أن يخيب داعيــــــا — فسبحانه قد قال “أدعوني أستجبْ”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تسعة + 20 =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض