آراء ودراساتسلايدرمع قهوة الصباح

نظراتٌ في الدعاءِ الناصِري…في سؤال خيرية الأقوال والأفعال(23)

محمد التهامي الحراق

دعما للأفق الروحاني في لحظات الابتلاء، واستحضارا لطاقة الدعاء عند الشدائد والضراء؛ كما تؤصل له المرجعية الإيمانية الجامعة بين البذل والتوكل، بين الأخذ بالأسباب وملازمة الدعاء؛ ننشر ها هنا نظرات في متن الدعاء الناصري(نسبة إلى الصوفي الكبير محمد بناصر الدرعي دفين تمكروت عام 1085هـ). ويعد هذا الدعاءُ واحدا من أشهر الأراجيز التوسلية التي اعتاد أهل المغرب استعمالها في باب التضرع عند الشدائد والمحن.
* * *

رحلتنا مع “الدعاء الناصري” رحلة مباركة تنقلنا في أطوار التضرع وأساليب التوسل ومعاني الوقوف بباب الكريم والإلحاح في سؤال المنعِم الحليم… وقد وقفنا في الحلقة الماضية على توسل الناظم باسم الله “الرحيم” لينشر على المتضرعين رحمته الواسعة الشاملة، وتوسل إليه باسمه “الكريم” كي يبسط عليهم من نَعمائه وآلائه التي لا تعد ولا تُحصى، ” وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا” كما قال تعالى. وها هو هنا يواصل الناظم بسطَ مناطات الرجاء وتنويعَ ألوان الدعاء، حيث يقول:

وخِرْ لنا في سائر الأقوال —
واخترْ لنا في سائر الأفعال

نحن هنا أيضا إزاء تواز إيقاعي عجيب على مستويات الكلمات والتراكيب والتسجيع والتوقيع بين الصدر والعجز، حيث يمكن أن نقابل كلمات الصدر وكلمات العجز، فنقابلُ بين فعل “وخِرْ” في صدر البيت وفعل “واختر” في عجزه؛ و نقابل بين متعلَّقِهما “لنا” في الصدر و”لنا” في العجز؛ ونقابل بين شبه الجملة من جار ومجرور “في سائر” التي نجدها في الصدر وفي العجز؛ ثم نقابل بين التركيب الإضافي “سائر الأقوال” في “الصدر” ونظيرِه ” سائر الأفعال” في العجز. وهو التحليل عينُه الذي يمكن أن نقومَ به لزمرة من أبيات القصيدة الناصرية.. و يشكل هذا البناءُ التقابلي إيقاعا داخليا لطيفا يسري في أوصال أبيات الدعاء، إيقاعٌ يجمع بين بساطة الكلمات وبهاء إيقاع البناء والسبْك، وفيضِ الروحانية المتدفق في المعاني والإشارات.
وإذا عدنا إلى البيت الذي نحن بصدده، فإننا نسجل استعمالَ الناظم لفعل نادر الاستعمال في قوله “وخِر”، وهو فعلُ أمر من الأصل الثلاثي: خارَ يَخير خَيْرًا وخِيرةً وخِيَرةً ، فهو خائر، والمفعول مَخِير، وخَارَهُ عَلَى صَاحِبِهِ أَوْ خَارَ الشَّيْءَ: فَضَّلَهُ، حيث يتضرع الناظم للمولى أن يوفقه ليُفضّلَ الخيِّرَ من سائر الأقوال؛ إذ معلوم أن اللسانَ قد يُهلِك صاحبَه من حيث لا يشعر، قال تعالى وهو يعرض لصفات عباد الرحمن: “وَإِذا مَرُّوا بِالَّلغْوِ مَرُّوا كِرَامًا”؛ و قال النبي صلى الله عليه وسلم: “وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ في النَّارِ على وُجُوهِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ ألْسِنَتِهِمْ؟”، وقال أيضا: “إِنَّ العبد ليتكلّم بالكلمة -مِنْ رضوان الله- لا يُلْقِي لها بالاً، يرفعه الله بها في الجنة، وإن العبد ليتكلم بالكلمة -من سَخَط الله- لا يُلْقِي لها بالاً، يهوي بها في جهنم”. فالإنسان مسؤول عما يلفظه من قول، قال تعالى: “مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ “. لذلك يتوسل الناظم إلى الحق سبحانه أن يمن عليه بإجراء الخير على لسانه، فلا يصدر عنه من زخرفِ القول ولا سيئه ولا زورِه ما يوقعه في كذب أو نميمة أو غِيَبة أو بهتان، بل أن يجعلَ لسانَه ذاكرا حامدا شاكرا رطبا بذكر الله.
ولما كان معيار صدق القولِ أن يصدقه العملُ، وأن من أكبر المقت عند الله المباعدةُ والمباينةُ بينهما، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾؛ و قال سبحانه: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾، أردف الناظم طلبَ التوفيق لخير الأقوال بطلب رديف يقول فيه: “واختر لنا في سائر الأفعال”، أي اختر لنا من سائر الأفعال ما هو موافق لخير الأقوال. وهو طلب يتضمن معنى تفويض الاختيار للحق سبحانه، قال تعالى: “وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ، مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ”. على أن الأقوال والأفعال لا تَنال من الله القبول إلا إذا كانت على النهج القويم والصراط المستقيم الذي أجمله القرآن الكريم وفصَّلته السنة النبوية، لذلك رفع الناظم كفيه ضارعا قائلا:

يا رب واجعل دأبنا التمسكا —
بالسنة الغراء والتنسكا

وهنا يظهر ما سبق أن ألمعنا إليهِ سابقا من الإشارات العَقَدية المتضمَّنة في هذا الدعاء، فالناظم يعتقد أن لا تَنَسُّكَ في الأقوال والأفعال إلا ما جاء على مقتضى أقوال وأفعال وتقريرات وأحوال المصطفى صلى الله عليه وسلم، مما هو مقرر في سنته الغراء عليه أفضل الصلاة والسلام. يقول صلى الله عليه وسلم:” تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما ما تمسكتم بهما، كتابَ الله وسنتي”. و هو ما يشير إلى المنحى السني لتصوف الشيخ ابن ناصر من جهة، وإلى تمسك أهل المغرب بمذهب أهل السنة و الجماعة في الاعتقاد والأقوال والأفعال من جهة ثانية…تمسك جعل رجاءهم في الله و مَنِّه و فضلِه و رحمتهِ رجاءً لا ينقطع، و أملاً لا ييأس، و ظنا جميلا لا يخيب.

إلهي عبدُكَ الراجـــــي أتـــــــاك —
مُقِرّاً بالذنوب وقد دعــاك
فإن تغفر فذو منٍّ وفضـــــــــــل —
وإن تطرد فمن يرحم سواك
* * *

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

9 − 2 =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض