آراء ودراساتسلايدرمع قهوة الصباح

نظراتٌ في الدعاءِ الناصِري…في جعل الغرض الأسمى هو المعرفة الربانية(24)

محمد التهامي الحراق

دعما للأفق الروحاني في لحظات الابتلاء، واستحضارا لطاقة الدعاء عند الشدائد والضراء؛ كما تؤصل له المرجعية الإيمانية الجامعة بين البذل والتوكل، بين الأخذ بالأسباب وملازمة الدعاء؛ ننشر ها هنا نظرات في متن الدعاء الناصري(نسبة إلى الصوفي الكبير محمد بناصر الدرعي دفين تمكروت عام 1085هـ). ويعد هذا الدعاءُ واحدا من أشهر الأراجيز التوسلية التي اعتاد أهل المغرب استعمالها في باب التضرع عند الشدائد والمحن.
* * *

حين اعتنى العلماءُ والأدباءُ والصلحاءُ بدعاء الإمام ابن ناصر الدرعي، لم يكن يغيبُ عنهم أنَّ قصيدةَ الناصرية متعددةُ الأبعاد، متنوعةُ الأدوار، تغتنِي بتلقيها في سياقاتٍ مختلفةٍ، لكنها تحافظُ على جوهر الرسالة التي تُشكلُ محورَها ومدارَها. و يتعلق الأمر برسالةِ تصحيح التوحيد، وترسيخِ الإيمان، وتثبيتِ اليقين في رحمته الله واستجابته لسؤال السائلين متى ما أقاموا في الاضطرار ولزموا الإلحاح في الدعاء و قدموا بين يدي دعائهم صالح الأقوال والأعمال. وهذا المقصِدُ الإيماني العميقُ هو الذي ظل يُحَركُ الإمامَ ابن ناصر في مختلفِ أطوار وتفاصيل قصيدته، مثلما ظل يُحفِّزُ العلماءَ والأدباءَ والصلحاءَ على التوسل بهذا الدعاء آناء الليل وأطراف النهار، ويحضُّهُم على استعمالِ هذهِ القصيدة في المُردَّدَات والأذكارِ، ونشرِها بين المريدينَ والفقراءِ والذاكرين وسائر أهل الإيمان.
إن ما يجذِب أيضا في هذا الدعاءِ النفيس أن الشيخ ابن ناصر ما فتئ يتوسع في التضرع والتوسل بأساليبَ ودلالاتٍ متنوعة ومتجددة، وهذا من أبرز مجالي الإلحاح في الدعاء من جهة، ومن أسطع مظاهر إبراز اضطرار المتضرع من جهة ثانية، وكلاهما من مقتضيات استجابة الدعاء كما مر معنا في الحلقات الماضية. وهنا يواصل شيخ تامكروت تضرعه مازجا بين الشريعة والحقيقة. فبعد توسله للمولى أن يوفقه إلى خير الأقوال وأن يختار له في سائر الأفعال، وهو اختيار تفويضٍ وتوكل لا هوان وتواكل، وبعد استحضاره في الدعاء لسُنَّة المصطفى صلى الله عليه وسلم باعتبار التمسك بها هو العاصمُ من الزلل في كل الأقوال والأفعال، ها هو يعود إلى التوسل والتضرع للمولى كي يحققه بحقيقة التوحيد الخالص و يعرفهُ به تمام المعرفة. يقول:

واحصر لنا أغراضنا المختلفة —
فيك وعرفنا تمام المعرفة

إن معرفة الله سبحانه وتعالى هي الغاية من الإيجاد، والمطلبُ الرئيس من خلق الخلق، ذلك أن الخلقَ لم يُخلقوا عبثا و لن يتركوا سدى، قال تعالى: “وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون”، قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية: إلا “ليعرفون”؛ لذلك طلب الناظم أن يكون المقصد الأسمى لكل أغراضه المختلفة، حسية ومعنوية، ظاهرة وباطنة، هو التحقق بمعرفة الله سبحانه وتعالى، وإلى ذلك نذر كلَّ أغراضه ووجَّه كلية قصده وهِمَّته. وتلك هي حقيقةُ التوحيد الخالص التي يطلبها المسلم الحق، قال تعالى:” قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ”.
العباداتُ بشتى أنواعها لا تطلب شيئا غيرَ القيام بحق الربوبية، وذاك شرط معرفة الله سبحانه، لذلك يطلب خُلَّصُ العابدين من الحق سبحانه أن يمنحهم صدقَ العبودية المتمثل في صدقِ الأقوال والأفعال، ويوفقهم للقيام بحقوق الربوبية المتمثلة في معرفة الله حقَّ معرفته، يقول صاحب “الحكم”: “مطلب العارفين من الله تعالى الصدق في العبودية، والقيام بحقوق الربوبية”. وقد سبق معنا على امتداد رحلتنا مع “الدعاء الناصري” أن أكدنا على أن ارتقاء العبد في مدارج القرب الإلهي، وتتويجَ دعائه بالاستجابة والإجابة والقبول، كلُّ ذلك منوط بمدى تحققه بأوصافِ عبوديته وتعلقه بأوصافِ ربوبية مولاه. وهو ما يظهر على مستوى العمل بالجمع بين العلم والعمل، وعلى مستوى النية بصرف كل الآمال إلى طلب الفوز في دار الخلود. لذلك قال الناظم:

واجمع لنا بين علم وعمل —
واصرف إلى دار البقا منا الأمل

ذلك أن من أبرز علامات الخَطْوِ على طريق معرفة الحق سبحانه تمام المعرفة، أن يجمع سبحانه للطالب بين العلم والعمل؛ إذ العلم النافع هو الذي يثمر عملا صالحا، وقد نكل سبحانه ببعض أهل الكتاب الذين لم يعملوا بعلمهم فقال: ” أتامرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب”؛ وأثنى على العمل الصالح الذي قرنه دوما بالإيمان، فقال تعالى: “وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ”. ومن تمام الصدق الذي يعني الجمع بين العلم والعمل، أن يكون العلم والعمل مصروفين للآخرة ؛ ” و للآخرة خير لك من الأولى” أي مصروفين لوجه الله لا لغيره. وهو ما يقتضي تصحيح النية لله في كل قول وعمل.
تبقى الإشارة إلى أن الهمة العالية للشيخ ابن الناصر قد جعلت مقصِدَه الأسنى من سائر الأغراض والأعمال هو معرفة الله سبحانه، دون أن يعلِّقَ همته لا بحور ولا بقصور في جنات النعيم؛ بل همتُه قد تعلَّقت برب الجنة سبحانه، وهذا هو ديدنُ العارفين. يقول الإمام أبو مدين الغوث: “شتان بين من سلبته الحورُ والقصور، وبين من همته رفع الستورِ ودوام الحضور”، أي الحضورُ مع الله سبحانه ومعرفتُه حق معرفته، أي معرفةُ أسمائه و صفاته الجمالية و الجلالية و الكمالية، و التحققُ بمعيته الحقَّة في سائر الحركات و السكنات؛ إذ من عرف ربه تحقق بسمي معيته. ذاك بعض ما يسري من إشارات عرفانية في هذا التوشيح الذي نطمه العارف أبو الحسن الششتري على لسان الحضرة العلية، يقول:

تطلبني وأنا معــاك في كل حالْ —
ترقبني عند المعـــــاني لا الظــــــلالْ
تجدني خفَيْتُ عن طي المثــــال — اعرفني إياكْ تكـــــــون بيَ جهــــــول

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

4 + تسعة عشر =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض