آراء ودراساتسلايدرمع قهوة الصباح

نظراتٌ في الدعاءِ الناصِري…في طلب نهج السعداء وختم الشهداء وصلاح الأهل(25)

محمد التهامي الحراق

دعما للأفق الروحاني في لحظات الابتلاء، واستحضارا لطاقة الدعاء عند الشدائد والضراء؛ كما تؤصل له المرجعية الإيمانية الجامعة بين البذل والتوكل، بين الأخذ بالأسباب وملازمة الدعاء؛ ننشر ها هنا نظرات في متن الدعاء الناصري(نسبة إلى الصوفي الكبير محمد بناصر الدرعي دفين تمكروت عام 1085هـ). ويعد هذا الدعاءُ واحدا من أشهر الأراجيز التوسلية التي اعتاد أهل المغرب استعمالها في باب التضرع عند الشدائد والمحن.
* * *

أنْ يَتفَحَّصَ المَرْءُ بَعْضَ إشاراتِ “قَصِيدةِ الناصرية” كفيلٌ بجَعْلهِ يَكتشِفُ قدرةَ هذا النَّصِّ عَلَى الجَمْعِ بينَ الأبعادِ الرّوحيَةِ والأدبيةِ والجَمَاليةِ؛ خصوصا وأن العنايةَ به قد تجاوزتِ الوجهَ العلمي والأدبي إلى الوجه الروحي والإنشادي، وهو ما يُسهمُ في شحن القصيدة بروحٍ وجدانية جماعيةٍ تجعلُ من نصهاَ مِلْكاً رمزيا جماعيا على مستوى العنايةِ والتداولِ والإنشاد. و نواصلُ اليوم إبراز قبساتٍ من هذه الأبعادِ من خلال بيان ما انطوت عليه أبياتُ هذا الدعاء المبارك.
فإيمانا من الشيخ ابن ناصر أن التوفيقَ من الله، وأن الهدايةَ منه بعد سعي العبد وإخلاص نيته وقصده، يواصل الشيخ التذلل بباب مولاه، والإناخةَ بأعتابه، والابتهالَ له كيما يجمعَ له بين العلم والعمل، ويصرفَ إلى دار البقا منه الأمل؛ ذلك أن العلم بلا عمل كما هو معلوم هو علم غيرُ نافع، و أن كلَّ علم أو عمل يحصر قصدَه وأملَه وسعيَه عند دار الدنيا هو غرور اغترار؛ إذ من المقرر في القرآن الكريم أن الدنيا العاجلةَ دارُ اختبارٍ وعبور وأن الآخرة هي دار القرار، قال تعالى: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً، وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً﴾.
إن هذا السعي المشكور هو السبيلُ لبلوغ السعادة في الدارين، لذلك يطلب الناظم الفوزَ فيهما بأن يسلك نهجَ السعداء في الدنيا ويظفر بختم الشهداء عند حلول أوان الرحيل، يقول:

وانهج بنا يا رب نهج السعدا —
واختم لنا يا رب ختم الشهدا

ونهجُ السعداء في الدنيا هو المنهج المحمدي القويم والصراط الرباني المستقيم اللذان جاء تفصيلُهما في الكتاب الحكيم والسُّنَّةِ المُشَرَّفة؛ ذلك أن نهج السعداء من الخلق يقوم على السيرِ وفق سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وهديه في الأقوال والأفعال والأحوال، وختمَ الشهداء يتحقق حين يختم الله على العبد الصالح بما ختم به لأوليائه وأصفيائه حيث يموت على نهج الحنِيفية السمحاء موحِّدا ربه، متحققا بحقيقة إيمانه.. فعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : “مَنْ كَانَ آخِرُ كَلامِهِ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ”. ومعروف في أدبيات أهل الصلاح أنه “ما قَطَّعَ أكبادَ العارفين سوى الخوفِ من سوءِ الخاتمة”، وذلك لعلمهم بحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، الذي يقول فيه: “إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُوْنُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا”.
والناظم يجول في رحاب جنة الدعاء طلبا لسعادة الدارين بفلاح السعي في الدنيا وحسنِ الخاتمة، لم يفُته أن يدعوَ للأبناء والبنين باعتبارهم من زينةَ الحياة الدنيا، قال تعالى: “الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا “. على أن في هذا البيت مناسبةً لطيفة مع سابقه؛ إذ بعد أن دعا الناظمُ ربَّهُ لينعم عليهِ بالعلم النافع والعمل الصالح المُمَثِّلَيْن نهجَ السعداء، وأن يختم عليه المولى بقبول سعيهِ من خلال الختم السعيد بالشهادة، ينتقلُ هنا بالدعاء للأهل بالصلاح والعلم والعمل والنصح الرشيد، فيقول:

واجعل بنينا فضلاء صلحا —
وعلماء عاملين نصحا

إن الناظم قد طلب مواردَ الرحمات بعد الممات، والتي تبقى وتخلد عندما يفنى الإنسان وترجع الروح إلى بارئها وينقطعُ عملُ ابنِ آدم بالكلية. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “إذا مات ابن آدم انقطعَ عمله إلا من ثلاث: صدقةٍ جارية، أو علمٍ ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له”؛ ذلك أن ثمة، في ضوء هذا الحديث، ثلاثةَ مفاتيح للرحمة ولعدم الخوف من الرحيل، أو قل لضمانِ الرحمة بعد الممات وعدم الرحيل مع رحيل الزمن. مفتاحُ العلم بشرط النفع للبشرية؛ ومفتاحُ العمل الإحساني والخيري بشرط امتداد نفعه بعد رحيل صاحبه، ومفتاحُ الأبناء بشرط الصلاح. هي مفاتيحُ ثلاثةٌ على الراغب في الرحمة والخلود أن يستثمرَ العمر في الظفر بها. وما سوى ذلكَ من مال وجاه ومُتَع إن لم تحصِّل هذه المفاتيح، هي أدواتٌ بائرة وتجارة كاسدة وعُمَلٌ مزيفةٌ ومشاريع مُفلسة في ميزانِ الرحمة والخلود.. تلك قطرة من يمّ الأسرار الكامنة في الحديث المذكور للرحمة المهداة وسيدِ الخالدين صلى الله عليه و سلم. وهي القطرةُ التي تَبَلَّل بمعناها الشيخ ابن ناصر في هذا الدعاء و هو يُجْمِل الإشارة إلى المفاتيح الثلاثة.
تلك المفاتيح التي نتوسل للعلي القدير أن يرزقنا ثمراتِها الرحموتية في الدنيا والأخرى، وأن يلهمنا معها استغفارَ الصالحين وهم يتبرؤون من كل دعوى عملٍ حتى لا تغترَّ نفوسُهم وتُمحقَ أعمالهم. يقول الإمام البوصيري:

أستغفر الله من قـــول بلا عمـل —
لقد نسبتُ به نســـــلا لذي عقــم
أمرتك الخـير لكن مـا ائتمرت به —
وما استقمتُ فما قولي لك استقم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عشرين + 4 =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض