تأملاتسلايدر

من معالم راهنية محمد إقبال

في قراءة عبد النور بيدار

بقلم محمد التهامي الحراق

في كتاب عبد النور بيدار “الإسلام في مواجهة موت الإله.. راهنية محمد إقبال “، يحاول بيدار التقاط ذاك “الشيء” الذي جذبه إلى إقبال، والذي يتيح له إضاءة إشكالية راهنية تتمثل في ما تتخبط به اللحظة من تجاذب بين انطفاء جذوة الديانات التقليدية وبين الفراغ الروحي الذي تقاسي منه الحداثة؛ ذلك أن الفرد المعاصر يعاني من “خصاص روحاني” Insatisfaction spirituelle؛ ومن ثم يرى بيدار في عبقرية إقبال، أو لوتر الإسلام كما أطلق إليه، إمكانا استثنائيا لإضاءة هذا المأزق، و ذلك بفتح آفاق جديدة للتعالي تتجاوز في الآن ذاته تكلس الديانات التقليدية وعجزها له إنتاج المعنى، مثلما تتجاوز إهمال التعالي الذي أفضى إلى نتائج غير محمودة وكارثية على الإنسانية بعد عصر الأنوار. فإقبال، حسب بيدار، كان ممن فكر مبكِّرا في مستقبل التدين والدين وأشكالهما في الآتي. و في هذا الأفق يدعونا إلى إعادة قراءته مستحضرين التقدير المزدوج لما آلت إليها الديانات التقليدانية، وهي هنا الإسلام بوجه خاص، وكذا لما آلت إليه الحداثة في علاقتها بالتعالي.

* * *
يؤكد بيدار أن تميز إقبال يتبدى في كونه لم ير في الحداثة واقعة سياسية واقتصادية وتقنية، بل رآها واقعة روحية وميتافزيقية. ومن ثم ذهب إلى كون نيتشه قد أخطأ في قراءة التحول العميق الذي أحدثته الحداثة، إنه قرأه ضمن التعالي وتغير طبيعته كموت للإله، وهو ما جعل المسلمين ينظرون للحداثة من الزاوية التقنية والعلمية والاقتصادية، ويهملون بعدها الروحي، لكونها بالنسبة إليهم، لا قداسة فيها؛ إنها تحول دنيوي وزمني محض يقوم على إعدام التعالي ومحق كل معنى ميتافيزيقي. بخلاف ذلك، فإن إقبال برؤيته المتميزة للحداثة كواقعة روحانية، يرى أن المسلمين من خلال الفهم المذكور المستند إلى الصورة النيتشوية التي تقدمت بها الحداثة، قد ضيعوا مدخلا ثمينا و حوارا نفيسا لتجديد دينهم من خلال الإفادة من الأفق الروحاني المنسي في الحداثة. على أن هذا الحوار المنسي هو الذي من شأنه أن يخرج الحداثة من علاقتها المتوترة مع التعالي، مثلما من شأنه أن يخرج التدين الإسلامي من تكلسه و تقليدانيته التي سجن نفسه فيها حين انقطع عن لحظاته الروحانية الإبداعية وعن التحول الكبير الذي أحدثته الحداثة باعتبارها حدثا روحانيا وميتافيزيقيا.

* * *
يعتبر بيدار أن إقبال يستند بقوة إلى الميراث الصوفي الإسلامي المتوهج، وهو الميراث الذي آل إلى واقع متكلس ضمن تراجع التفكير الديني في الإسلام بوجه عام. لذلك ومن أجل تجديد هذا التفكير، يرى بيدار أن إقبال يقترحُ طريقا ثالثا ينقذ الإسلام مما آل إليه من انغلاق على المستويين العقلاني و الروحاني، و كذا مما آلت إليه رؤيته الوجودية للإنسان والكون من ارتباك في ظل شروط اللحظة الراهنة، مثلما ينقذ الحداثة من وهم لا روحانيتها وخروجها من الدين بقتل الإله وإعدام التعالي.
إن إقبال، حسب بيدار، ومثلما يخاصم معرفيا التقليدانية الإسلامية التي فوتت إمكان تجديد الدين انطلاقا مما تتجه إليه الحداثة الغربية و تفتحه من آفاق، ينتقد كذلك هذه الأخيرة في مسارها الذي لم يعها كتحول في الروحانية، وصار فيها نحو عدمية مدمرة، وإلحادية أهدرت ما تكتنزه الحداثةُ من إمكانات في إنتاج المعنى الإنساني والوجودي.
يخطُّ، إقبال، بهذا الطريق معالم أفق متميز، خصوصا وأنه وبالرغم من تقاطع فكره مع الإصلاحيين في الشرق، كالأفغاني وعبده من حيث نقدهم للواقع الإسلامي ودعوتهم إلى ضرورة الإصلاح والتجديد، لكنه يختلف عنهم في أمر رئيس؛ ذلك أن رؤية هؤلاء السياسية للحداثة جعلتهم يزاوجون بين الدعوة للإفادة من جوانبها الحضارية والعلمية والتقنية مع رفع صوت الرفض والمقاومة ضد وجهها الاستعماري والإمبريالي، وهو ما أفرز من جهة أخرى تيارات متطرفة في رفض الغرب جملة وتفصيلا؛ في حين أن إقبال تعامل مع الغرب وحداثته وفق منظور إنساني، ذهب للبحث عن البعد العميق والإنسي في هذه الحداثة من خلال مساءلة الروحانية لها، ومواجهتها بسؤال الإنسان والمعنى الوجودي الجديد الذي يمكن أن تقدمه ليس فقط لحياته التقنية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، بل لحياته الروحية ومعنى وجوده في العالم.
* * *

بعبارة أدق، لم يقتصر إقبال على المستوى السياسي أو التقني في الحداثة، مقصيا المستوى الروحي فيها باعتبارها معادية لكل روحانية، بل ذهب أيضا ليبحث بعمق عن هذا البعد الذي من شأنه أن يلبي خصاصا روحانيا كبيرا يعاني منه الإنسان الحديث بحكم تراجع الديانات التقليدية عن وظيفتها في إنتاج المعنى، وعجز الرؤى الإقصائية للتعالي باسم الحداثة في إشباع هذا الخصاص الانطولوجي المتفاقم للمعنى. فالحداثة، حسب حدس عظيم لإقبال، تتيح “إلهاما جديدا” للمسلمين، من شأنه أن يخلصهم من أزمة التقليدانية الدينية والفهم المادياني للحداثة. يقول بيدار: “لم يأخذ العالم الإسلامي أبدا على محمل الجد فكرة إقبال التي يمكن بناء عليها أن تقدم الحداثة ما يمكن تسميته “إلهاما جديدا”. لم يشتغل هذا العالم على نفسه انطلاقا من هذا الحدس الذي طرحه إقبال، من أجل التعرف على وجود أساس روحاني مشترك في الروح الأصيلة للإسلام، وفي الحداثة القادمة من الغرب على السواء” (ص.46).
إن انغلاق العالم الإسلامي في تعامله مع الحداثة على هذا المستوى في غالبيته نابع من اعتباره الحداثة ظاهرة دنيوية فقط أو ظاهرة محض دنيوية، وهذا أكبر خطأ وقع فيه المسلمون خلال القرن العشرين وما زالوا أُسراءه إلى الآن. لذا لم تفد أغلب دول العالم الإسلامي في الأبعاد العميقة للحداثة، بل اكتفت بجوانبها الرأسمالية والاستهلاكية والبيروقراطية الأكثر سطحية. على أن هذا الفهم الكارثي للحداثة والتعامل الذي جعلها مدمرة لكل الأبعاد الدينية والروحية العميقة، هو ما يدعونا اليوم إلى إعادةِ قراءة إقبال حسب بيدار؛ إذ “معه يؤخذ الفكر والتجربة الحداثيان بشكل مباشر بوصفهما تعبيرا عن حدث روحاني”.
* * *

في ضوء هذا الاتجاه، يفهم بيدار، قراءة إقبال للقرآن الكريم و استنفاره للتراث الصوفي الإسلامي ممثلا بكبار أعلامه، للدخول في حوار جدلي عميق مع كبار فلاسفة ومفكري الحداثة الغربية، مثلما يستنفر مختلف المعارف من تيولوجيا وفلسفة وعلوم وشعر باعتبارها معارف متساندة لا متنابذة تحكمها رؤية تكاملية، من خلالها يبغي خلق حوار بين مختلف معارف أعلام الشرق والغرب من أجل استبار الإمكانات العميقة للسمو بحياة الإنسان واستشراف ما سماه بيدار بـ”الإنسانية القادمة” من وراء كل الخطابات والأديان والفلسفات المبلورة سابقا..
إن ما يجعل إقبال راهنيا، حسب بيدار، هو إيمانه بكون الفكر العقلاني و الفكر الحدسي الروحاني في حاجة إلى بعضهما البعض، وهو ما يظهر في عمله التحريري المزدوج؛ تحرير غير المؤمنين من الحكم المسبق بكون الفكر الفلسفي والعلمي في الغرب قادر على تحقيق اكتفائه الذاتي في غير ما احتياج إلى الفكر الديني لفهم الحياة والعالم، وتحرير المؤمنين من الحكم المسبق العكسي من كون الفكر الديني مكتف بذاته، في غير ما احتياج أو حاجة إلى تساؤلية العقل الفلسفي. و من أجل الوصول إلى هذا التحرير المزدوج يعمد إقبال إلى تجديد فهم “الإسلام” و”الدين”، وذلك من خلال الذهاب إلى أبعد من مظاهر الإسلام والحدث الديني لاقتطاف “الفواكه المجهولة”، و العمل على إنتاج “نمط خطاب إنسي، لا هو بالديني ولا بالدنيوي، بل بمحمول كوني حقيقي”. و هنا تشعُّ راهنية إقبال، والتي تظهر في قدرته على مخاطبة “وعي جمعي” يتحررُ في التصنيفات الحدية و المسبقات الإقصائية بين الإيمان والحداثة.

محمد التهامي الحراق

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

خمسة × 1 =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض