آراء ودراساتسلايدرمع قهوة الصباح

نظراتٌ في الدعاءِ الناصِري…في طلبِ جمع الشمل للجماعة والفتح لوليها (26)

محمد التهامي الحراق

دعما للأفق الروحاني في لحظات الابتلاء، واستحضارا لطاقة الدعاء عند الشدائد والضراء؛ كما تؤصل له المرجعية الإيمانية الجامعة بين البذل والتوكل، بين الأخذ بالأسباب وملازمة الدعاء؛ ننشر ها هنا نظرات في متن الدعاء الناصري(نسبة إلى الصوفي الكبير محمد بناصر الدرعي دفين تمكروت عام 1085هـ). ويعد هذا الدعاءُ واحدا من أشهر الأراجيز التوسلية التي اعتاد أهل المغرب استعمالها في باب التضرع عند الشدائد والمحن.
* * *
الإبحارُ المتأمِّلُ في معاني ودلالات “الدعاء الناصري” رحلة اكتشافية بامتياز؛ لأنها تكشف عن إشارات وإلماعات ولطائف ونُكَتٍ قد لا يُعبأ بها عند القراءة الأولى؛ بل إن بساطةَ الدعاء ووضوحَ مأخذه وابتعادَه عن التعقيد والترميز، كل ذلك قد يوهم بجلاءٍ لا وراءَ وراءه. في حين تثبت معاشرة النص والتأني في تتبع تفاصيله اللغوية والبلاغية والدلالية والإيقاعية أن “الدعاء الناصري” سلكَ مَسْلكَ البساطة العميقة والوضوح الكثيف، والانتساج في مستويات دلالية يجد فيها كل قارئ مطلَبه ومأرَبه حسبَ قدره في الفهم وصبرِه عليه، “قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ “.
وها نحن قد وصلنا إلى سلسلة الأبيات الختامية، والتي دعا فيه الناظم ربه بيقين أن ييسر له في الأقوال ويختار له في الأفعال، ويُعينَه على التمسك بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويحصرَ له أغراضه في معرفة مولاه تمام المعرفة، وأن يوفِّقَه إلى الجمع بين العلم والعمل ويُخْلِصَ قصده في طلب الآخرة، ويَهديَه إلى الأخذ بمَنهج السعداء من خلقه، ويختمَ عليه بختم الشهداء منهم، لينتقل إلى الدعاء للأبناء بالفضل والصلاح والعلمِ النافع المقرون بالنصح والعمل. وفي هذا السياق يضيف قائلا:

وأصلح اللهم حال الأهل —
ويسر اللهم جمع الشمل

وهو في هذا الدعاء يسلكُ مسلك صفوة الخلق من الأنبياء و الصلحاء، فقد دعا سيدُنا إبراهيم بالذرية الصالحة قائلا: “رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ”، وقال أيضا: “رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ” ؛ لا سيما وقد أدركَ أن أمانة النبوة لا يرثها إلا الصالحون، قال تعالى: “إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي، قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ”. وعلى سَنَنِ الأنبياء سار ورثتُهم من العلماء والصلحاء، فمن أدعية عباد الرحمن قولهم: “رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً”، ومن دعاء المؤمن إذا بلغ أشدَّه (أي أربعين سنة) قولُه: ” رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ” .
على أن الأمانة، أمانةَ الصلاح والدعوة إلى الله بالقول والعمل والحال لا تتحقق إلا بالاعتصام الجماعي بحبل الله، و بتأليفِ القلوب حول مِنهاجه و محبته قال تعالى: “وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمُ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا”، لذلك راح الناظم يدعو المولى سبحانه بتيسير جمع الشمل ولمِّ الشعْث ورتقِ فتق الفرقة والتشرذم، بقوله:”ويسر اللهم جمع الشمل”.
ث يردف قائلا:

يا رب وافتح فتحك المبينا —
لمن تولى وأعز الدينا

إن صلاح الجماعةِ وجمعَ شملها ولمَّ شعثها لا يتأتى إلا بالانتظام تحت سلطان رشيد، يتحقق حوله إجماعُ الجماعة، وبه يُطلب صلاحُ الأمة، وتصانُ وحدتُها، ويُسعى لمنَعَتها وعزَّتها، ويُلتمس أمنُها ورخاؤها. لذلك راح الناظم يدعو بالدعاء الصالح و الفتح المبين “لمن تولَّى وأعز الدينا”. ومعلوم أن هذا الدعاء مقتبَس من قوله تعالى في مفتتح سورة الفتح: “إنا فتحنا لك فتحا مبينا”، وفي هذا إشارة إلى أن وليَّ الأمر هو نائب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في سياسة أمته و تدبير شؤونها، ومن ثم فإن الناظم إذ يدعو هنا له ومعه، إنما يصدر عن يقينٍ إيمانيّ بأن من كانت له دعوةٌ مستجابة فليدع بها للإمام؛ فقد اُثِرَ عن الفضيلِ بنِ عياض قولُه : ” لَوْ أَنَّ لِيَ دَعْوَةً مُسْتَجَابَةً مَا صَيَّرْتُهَا إِلَّا فِي الْإِمَام،ِ قِيلَ لَهُ: وَكَيْفَ ذَلِكَ يَا أَبَا عَلِيٍّ؟ قَالَ: مَتَى مَا صَيَّرْتُهَا فِي نَفْسِي لَمْ تُجْزِنِي وَمَتَى صَيَّرْتُهَا فِي الْإِمَامِ فَصَلَاحُ الْإِمَامِ صَلَاحُ الْعِبَادِ وَالْبِلَاد”. نعم، في صلاح الإمامِ صلاح للجماعة وفلاح للأمة، وفي عزته عزة للدين وصون لشعائره وقيمه وحقوقه. لذلك يذّخِرُ المؤمنون صالِحَ دعائهم للأمةِ ووُلاتِها، فيقفون متذللين متملقين عند باب الرب الكريم، وقد وثِقوا بفضلهِ و أيقنوا في عظيم نداه وعطائِه.

و أحسن أحوالي وثوقي بفضلكم —
و أني علــــى أبوابكـــمْ أتملق
فلله ما أحْلَى الســـــؤال لفاضِــلٍ —
عظيم الندا منه العطاء محقـق

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

13 − ثمانية =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض