آراء ودراساتسلايدرمع قهوة الصباح

نظراتٌ في الدعاءِ الناصِري…في عموم الدعاء بحفظ الدين والعفو عن الذنب(28)

محمد التهامي الحراق

دعما للأفق الروحاني في لحظات الابتلاء، واستحضارا لطاقة الدعاء عند الشدائد والضراء؛ كما تؤصل له المرجعية الإيمانية الجامعة بين البذل والتوكل، بين الأخذ بالأسباب وملازمة الدعاء؛ ننشر ها هنا نظرات في متن الدعاء الناصري(نسبة إلى الصوفي الكبير محمد بناصر الدرعي دفين تمكروت عام 1085هـ). ويعد هذا الدعاءُ واحدا من أشهر الأراجيز التوسلية التي اعتاد أهل المغرب استعمالها في باب التضرع عند الشدائد والمحن.

ها نحنُ نقيمُ مع صاحب “الناصرية” في مقامٍ رفيعٍ، يُحِبُّ الحقُّ أن يرى فيه عبدَهُ. إنه مقامُ الدعاء، قال النبي صلى اللهُ عليهِ وسلم : ” من لم يسألِ اللهِ يغضبْ عليه”، وهو ما يشيرُ إليه العارف المغربي محمد الحراق بقوله:

فلذ بالذي يَبغي المُلِحَّ لفضلِه –
ويَغضبُ إن عنهُ العفاتُ تفرّقوا

ثمَّ إنَّ الدعاءَ فتحٌ من اللهِ سبحانه، ومن ُفتح عليهِ بالدعاءِ فُتِحتْ لهُ أبوابُ الرحمةِ الربانية، لقولهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم: “مَنْ فُتِحَ له مِنكمْ بابُ الدعاءِ فُتِحَتْ لهُ أبوابُ الرحمة، وما سُئِلَ اللهُ شيئاً يُعطَى أَحَبَّ إليه من أن يُسْألَ العافية، إن الدعاءَ ينفعُ ممَّا نزَلَ وما لم ينزْلْ، فعليكم عبادَ الله بالدعاء “.
و نحن إذ نخطو من “الدعاء الناصري” المبارك خَطَوات تقربنا من ختامه، نلاحظ أن الأبيات الختامية أصبحت أكثر شمولية في الدعاء، بحيث شملت الأبناء والأهل والإمام والدين؛ ومعلوم أن عزةَ الأمةِ الإسلامية، كما يؤكد ذلك الناظم، في عزة دينها، إذ هو مدارُ وجودها وانبناءِ هويتها وقيامِ كيانها، لذلك دعا الناظم بالنصر والعزة للدين المحمدي، غير أنه بَيَّن أن هذا النصر وتلك العزة متعلقان بشرطين: بسلطة زمنية قوية ومتمكنة وقادرة، تبدت من خلال دعاء الناظم للإمام بالفتح والنصر، وكذا بسلطة علمية يتبوأ فيها العلم والعلماء المكانة الرفيعة والمنزلة اللائقة؛ إذ لا حفظ للدين المحمدي بغير هذين الشرطين. لذلك يقول الناظم:

واحفظه يا رب بحفظ العلما —
وارفع منار نوره إلى السما

ومعلومةٌ مكانة العلماء في الدين الإسلامي، فهم في مقام كريم ودرجة رفيعة، قال تعالى: ” “يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ”؛ وإقامة الدين لابد فيها من العلم، فالله سبحانه لا يعبَد بالجهل، “شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ”؛ ثم إن العلم النافع يورث خشية الله سبحانه، قال تعالى: “إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ “. من هنا أهمية العلماء وتثمينُ طلب العلم في الإسلام، يقول رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِى السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِى الأَرْضِ وَالْحِيتَانُ فِى جَوْفِ الْمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ وَإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ”.
مِنْ ثَمَّ كان حفظُ الدين بحفظِ العلماء، وكانت كلُّ رفعة أو إشعاع يبلغهُ الدين من حيث هو نور و هداية، إنما يتحقَّق على يد العلماء بعلمهم وأولي الأمر بصلاحهم وإصلاحهم.
ثم يقول الناظم:

واعفُ وعاف واكف واغفر ذنبنا —
وذنب كل مسلم يا ربنا

هذا البيت جامع لطلبِ العَفْو، إذ هو سبحانه العَفُوّ، قال سبحانه:﴿وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا﴾، ولطلبِ المعافاة إذ هو سبحانه الشافي العافي، نقرأ في الآيات الكريمة: ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ، وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ، وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾، والبيت جامع أيضا لطلب الكفاية، أي لإغناءِ العبد عن السؤال والطلب، قال تعالى: ﴿وَ وَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى﴾؛ وهما إغناء وكفاية يتعلقان بالرزق وبسائر أنواع الاحتياج، لأنهما تُحققان الغنى بالله عن كل ما سواه، وتُثمِران القناعة بما منح سبحانه وأعطى مع الزهد في ما في يد الناس.
والبيت الأخير متضمِّن لطلب الغفران؛ إذ هو سبحانه عفو غفور كما مر معنا. ومغفرته سبحانه عامة شاملة تغفِرُ كل ذنوب المسلم مهما كان نوعها أو حجمها، فقد جاء في الحديث: “إِنَّ اللَّهَ يُمْهِلُ حَتَّى إِذَا ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَوَّلُ نَزَلَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ؟ هَلْ مِنْ تَائِبٍ؟ هَلْ مِنْ سَائِلٍ؟ هَلْ مِنْ دَاعٍ حَتَّى يَنْفَجِرَ الْفَجْرُ؟”؛ بل إنه قال صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: ” لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله فيغفر لهم “. إنه غفران شامل يشمل كلَّ الخطايا والذنوب عدا الشركَ بالله، قال تعالى: “إنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء”؛ لذلك قال الناظم: “واغفر ذنبنا وذنب كل مسلم يا ربنا”، أي ذنب كلِّ من لم يشرك بالله سبحانه؛ ذلك أن بابَ الغفران مفتوح على مصارعيه مهما كانت عظمةُ الذنب… يقول صاحب الحكم: “لا يعظمُ الذنبُ عندك عظمة تَصُدُّك عن حسن الظن بالله تعالى، فإن من عرفَ ربه استصغرَ في جنبِ كرمِه ذنبَه”. لأجل ذلك يقف بباب عفوه الواقفون و يطمع في رحمته الطامعون.

ولقد وقفت بباب عفوك راجيا —
منك الرضا يا أرحم الرحماء
فارحم ولا ترْدُدْ فإني لم أجـــد —
ربا سواك مُخَلِّصِي مِن دائي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

أربعة + ثلاثة =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض