آراء ودراساتسلايدرمع قهوة الصباح

نظراتٌ في الدعاءِ الناصِري…في بلاغة الحمد ببلوغ القصد( 30 – الحلقة الأخيرة)

محمد التهامي الحراق

دعما للأفق الروحاني في لحظات الابتلاء، واستحضارا لطاقة الدعاء عند الشدائد والضراء؛ كما تؤصل له المرجعية الإيمانية الجامعة بين البذل والتوكل، بين الأخذ بالأسباب وملازمة الدعاء؛ ننشر ها هنا نظرات في متن الدعاء الناصري(نسبة إلى الصوفي الكبير محمد بناصر الدرعي دفين تمكروت عام 1085هـ). ويعد هذا الدعاءُ واحدا من أشهر الأراجيز التوسلية التي اعتاد أهل المغرب استعمالها في باب التضرع عند الشدائد والمحن.

بعد سفر كريم مع “الدعاء الناصري” المبارك تمتعتْ فيه أذهاننا وأرواحنا ببديع المعاني ورفيع الدلالات السابحة في فلكِ التوسل الصادق، والتضرع الخالص لله سبحانه، ها نحنُ أيها الأفاضلُ نصلُ بفضلِ الله وسابغِ مَنّهِ إلى خَاتمةِ شرحنا لـ “الناصرية”، وذلك عقبَ رحلةٍ مُتلونةٍ مُتنوعة بتنوعِ تضاريسِ المعاني الرائقةِ التي شيَّدَ بها الإمام ابن ناصر قصيدتَه. رحلةٌ توسلية مباركة انطلقت بإعلان حالة الفاقة والافتقار والاضطرار الموجب للُّجوء لرحمة العزيز الغفار، وتوسعت في الدعاء القائم على بسط أوصاف العبودية والتعلق بأوصاف الربوبية والساعي إلى تنويع القول لإبراز روح الإلحاح التي تسري في هذا الدعاء، لتصل الرحلة عند نهاية مطافها إلى شَفْعِ الدعاء بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والتي تُعد من مَجَالِب القبول ومفاتيح إدراك المأمول. ولما كانت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم يتسعُ فضلها ويعم خيرها بالصلاة على آله الكرام الأطهار، ثم على الصحابة الأبرار ومن تبعهم من التابعين والصلحاء والأخيار، راح الناظمُ يمد صلاته على النبي الكريم لتشمَل الآل و الأصحاب ومن لهم تلا، يقول:

ثم على الآل الكرام وعلى —
أصحابه الغر ومن لم تلا

و غنيٌّ عن البيان أن التعلقَ بآل البيت الأطهار و حبَّهم و تبجيلَهم من مقتضيات محبةِ النبي الكريم، قال تعالى: ” قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ”؛ وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :” أحِبُّوا اللهَ لِمَا يَغْذُوكُمْ به من نِعَمِه، وأحبونِي بحبِّ الله، وأحبوا أهلَ بيتي لحبي”. ومن أبرز مظاهر حبهم تثنيةُ الصلاة على النبي الكريم بالصلاة عليهم؛ بل إن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم تكون بتراءَ دون الصلاة عليهم، وبترُ الصلاة على الآل من الصلاة الإبراهيمية في التشهد يُعد مبطلا للصلاة على مذهب الشافعي، وإلى ذلك يشير الإمام الشافعي مُخاطِبا آل البيت، فيقول:

يكفيكمُ من عظيم المجدِ أنكمُ —
من لم يصلِّ عليكمْ لا صلاةَ لهُ

والناظم لم يكتف في هذا الختم بالصلاة على الرسول الكريم وآل بيته الأطهار؛ بل شمِل بصلاتِه أصحابَ رسول الله رضوان الله عليهم، وكلَّ من لهم تلا من التابعينَ وتابع التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وفي ذلك عظيمُ الإجلال والتمجيد لكل من سار على نهج المصطفى صلى الله عليه وسلم، واقتبس من مشكاته وعمل على نشر نور هدايته بالمقال والحال خلفاً عن سَلف.
ثم يقول الناظم:

والحمد لله الذي بحمده —
يبلغ ذو القصدِ تمام قصده

في هذا البيت من بلاغة الختم ما لا يخفى؛ إذ يحمدُ الناظمُ اللهَ تعالى على ما وفقه إليه من إتمام هذا الدعاء والتوسل؛ وما هداه إليه من نعمة التوجه إليه وإفراد القصد له؛ فبحمد الله وشكره والاعتراف بآلائه تتم النعم وتدوم، إذ الشكر عِقال النعمة.
وإجمالا، ودون أن ندعي استفياءَ أبعادِ هذا الدعاء المبارك أو استنفاد أسراره، يمكن القول: “الدعاء الناصري” تحفة توسلية بديعة في معانيها ومبانيها، رفيعةٌ في بلاغتها وروحانيتها، تُسَكِّن من روع المُضْطَر، وتهدِّئُ من هلع المظلوم، وترفعُ اليأسَ والحَزَن عن المضيوم، وتفتح بابَ الأمل، وتغذي اليقين في الفرج بلا يأس أو ملل. وذاك واحدٌ من أسرار خلود مثل هذه المتون حيَّةً في الصدور وعلى الألسنة، تُتْلى سرا وعلانية، وتُذكَر أفراداً وجماعات، وتُحَلَّى بِبَهيّ النغم وشجيّ الألحان، عسى تَسْري بعضُ نفحاتها في القلوب والوجدان، و بها تغذي الأفئدةَ و تضيئها بأنوارِ الإيمان.
رحم الله الشيخ سيدي محمد بن ناصر الدرعي، وجزاه عنا أفضلَ وأحسنَ وأجزلَ ما جازى به أنبياءه وأحباءه وصلحاءه من زهيّ الجزاء و وافر العطاء. إنه تعالى سميع مجيب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

واحد × اثنان =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض