
البؤر المهنية تفضح المستور
محمد التويجر
بروز البؤر الصناعية والخدماتية والمهنية إلى واجهة حربنا ضد فيروس كورونا أسهم في كشف عورة نظم تدبير غالبية الوحدات المرتبطة بالمجالات الثلاثة، حيث القوانين المؤطرة في واد، ومرارة الواقع المعيش في آخر، وبين هذه وتلك طبقة شغيلة تكافح ضمانا للبقاء، فيما غالبية النقابات مكتفية بلعب دور المتفرج، المتفاعل مع الأحداث بسلبية تطرح أكثر من سؤال.
كانت البداية من وحدة صناعية بعين السبع القلب النابض للعاصمة الاقتصادية. حيث تابعنا تصريحات جريئة للعشرات من العاملات والعمال، الذين تحدثوا بتلقائية عن مرارة الحقوق المهضومة والخوف من مجهول فيروس أثار الفزع عبر العالم. معيبة على إدارة المنشأة تفاعلها مع الجائحة بكثير استهتار، ضاربة بالإجراءات الاحترازية من ضرورة توفير وسائل التعقيم اللازمة، واحترام مسافة الأمان، وضمان التهوية وما إلى ذلك عرض الحائط… ليتضح أن الجشع أعمى العيون، وطغت معها سلطة المال على المباديء والقوانين، خصوصا وأن المستثمر (الأجنبي خاصة) اعتاد على الاستفادة من وجود لوبيات محلية، عديمي الضمير وفاقدي روح الوطنية، تقنعه منذ أول يوم تطأ فيه قدماه بلادنا، بأن اليد العاملة المغربية مستعدة لقبول أي أجر، لا إشكال عندها إذا اشتغلت مفتقدة لأدنى شروط السلامة الجسدية والصحية رغم تحسيس ومراقبة الجهات المختصة.
إن ما يحدث في كبريات المدن الصناعية يسائلنا جميعا، ويستدعي – في هذه الظرفية بالذات – التفاعل بالصرامة اللازمة، للقطع مع كل أشكال التسلط، وتكريس صون كرامة شباب في مقتبل العمر، يضطر أمام انسداد الآفاق إلى ترك الجمل بما حمل، مغيرا الوجهة صوب دول تقدر كفاءته وتضمن له شروط العيش الكريم.
لقد حفلت الكثير من الخطب الملكية بتوجيه دعوة سامية للأدمغة المغربية المنبثة في العالم أجمع قصد العودة إلى منبت الأجداد، والمساهمة في بناء مغرب جديد، مؤمن بقدرات أبنائه موفر لمناخ أمثل للأعمال. إلا أن مشروع العودة لدى الذين تحرك حرقة الغربة بدواخلهم إحساس الحنين إلى الوطن، والاستجابة لندائه، يبقى معلقا إلى حين انقشاع ضبابية المشهد، ونشأة فضاء مشجع على تفعيل العودة وتسريعها .
إن ظهور البؤر المهنية والخدماتية فرصة ثمينة مواتية أمام مصالح الدولة المختصة، بعد انتهاء لجنة التحقيق الرباعية المشكلة من وزارتي الداخلية والصناعة والتجارة بمعية الدرك الملكي والأمن الوطني من تحديد مسببات بروزها، وترتيب المسؤوليات، ومن ثمة مباشرة عملية كبرى تتميز بجرأتها، لاجتثاث كل أشكال تسلط “الباطرونا” العابثة بالقوانين، من جذورها، مع تشجيع المشتغلة في تناغم مع الضوابط على مزيد عطاء وتميز، عبر تمكينها من امتيازات محفزة، كي تكون شريكا أساسيا في تيسير عودة الأدمغة المهاجرة وتسير اندماجها من جديد بالوطن الأم.
ما حدث بالدار البيضاء وفاس وطنجة بمثابة كشف بالملموس هشاشة ظروف العمل في العديد من المنشآت الصناعية، غير المقيدة بالقوانين المؤطرة، ومؤشر على:
• ضرورة إعادة النظر في طرق اشتغال النقابات، ذاك التجمع المغلق المشكل من وجوه خالدة، همها الوحيد التمسك بالمقاعد، يكاد لا يسمع لها صوت إلا نادرا، علما أن النادر لا حكم له.
• تفعيل اختصاصات مفتشيات الشغل، لتكون ضابطا لعلاقة أرباب المنشآت والطبقة الشغيلة ، بلا ضرر ولا ضرار، محتكمة إلى القانون دون سواه .
لقد شبه وزير الداخلية أثناء حديثه في إحدى جلسات مجلس النواب التي تلت ظهور اولى حالات الإصابة بفيروس كورونا، حالة المغرب بالمركب الذي يضم جميع أطياف المجتمع المغربي، مواجه لخيارين لا ثالث لهما: النجاة أو الغرق. ونعتقد أن ارتسام أولى ملامح النجاة مرتبط بداية بسرعة التدخل للحد من ظهور بؤر أخرى داخل المنشآت الصناعية، لتنطلق بعدها مباشرة عملية تعقيم كبرى، تتجلى في تنظيف البيت الداخلي للمرفق الصناعي والتجاري، بإعمال القانون بعيدا عن ثلاثية المحاباة والزبونية المحاباة. وآنذاك سنكون فعلا قد عبدنا الطريق أمام بزوغ مغرب جديد، مكنته المحنة الأخيرة من اكتشاف بعض مكامن القصور المتسببة في إضعاف دفاعات المقاومة لديه، لكنها أبانت بالمقابل أنه ممتلك لمقومات مناعة مجتمعية ذاتية، قادرة على تحدي فيروس كرونا وفيروسات أخرى أكثر خطورة ،اعتادت أن تقتل الطبقة الشغيلة ببطء من الداخل، من خلال هضم حقوقها وعدم تمكينها من أبسط ظروف الاشتغال، متجاهلة أن علاقة الطرفين شبيهة بسلسلة مترابطة الحلقات، إن أصيبت إحداها بعطب، تأثرت كامل المنظومة، وانعكس كل ذلك بالسلب على أرباب المقاولات والشغيلة والمغرب أجمع.