ثقافة

صدى رجالات أسفي في التاريخ – الحلقة 47

إعداد: الدكتور منير البصكري الفيلالي / أسفي

محمد بلعربي السوفياني 

إذا كان مجال هذه الكلمة القصيرة لا يسمح بالتوسع في الحديث عن المرحوم السي بلعربي السوفياني الذي غادرنا إلى دار البقاء ، وعن جميع أطوار حياته التي طبعت مسيرته، كوجه من الرياضة في مدينة أسفي ، فلا أقل من أن نتحدث عن أمرين اثنين عرفتهما في السي محمد بلعربي رحمه الله .
    الأول : النشأة والتربية في بيئة أصيلة .. لأنه لا يخفى ما هي معروفة به الأسر الأسفية من فضل وخيارة ، وما هي مشهورة به في ميادين مختلفة ، وطنية وعلمية وثقافية وفنية ورياضية  وأسرة الفقيد بلعربي ، واحدة من الأسر الأسفية التي كانت تحظى باحترام الجميع . وإذ أنسى  لا أنسى مروره يوميا من أمام بيتنا بالمدينة العتيقة ، بهندامه الجميل وأناقته الأخاذة وهو في طريقه إلى العمل بميناء أسفي . وما أعرفه عنه كذلك أنه من مواليد حي القصبة بدرب سيدي أحمد التيجاني .. كان يمارس رياضة كرة القدم . وفي هذا الصدد ، أحب أن أسترجع بعض الذكريات من ذلك الماضي الجميل ، حيث كنت أتصيد بعض اللحظات لأرافق خالي المرحوم الحاج أحمد بن حنة المعروف ب ( الفقير ) إلى بعض ملاعب كرة القدم ، خاصة ذلك الملعب الصغير الذي كان بجانب ملعب كرة القديم ( الملعب البلدي ) المعروف اليوم بملعب المسيرة . وهناك تعرفت إلى عدد من لاعبي كرة القدم ، من ضمنهم السي محمد بلعربي ، لاعب أنيق في ممارسته لهذه اللعبة . ومن شدة إعجابي بطريقة لعبه ، كنت أسأل خالي عن هذا اللاعب، علما بما كان بين الأسرتين من علاقة قرابة .. فهو إذن من مواليد مدينة أسفي سنة 1935 ، بها قضى طفولته ، ومنذ عام 1946 ، انخرط في فرق الأحياء وهو تقريبا في سن 14 ربيعا حيث أبان في لعبه عن مهارة عالية في تمرير الكرة ، كما كان يتمتع بموهبة كروية في المراوغات الذكية وامتلاك الكرة بكيفية أنيقة .. فكان لاعبا موهوبا يمتلك عدة إمكانيات ومؤهلات جعلت منه لاعبا متميزا ضمن صفوف الفرق الرياضية بأسفي ، فرض نفسه في تلك الفرق ، مما لفت أنظار غير قليل من مسؤولي كرة القدم بأسفي في ذلك الوقت ، فعملوا على إلحاقه بفريق الكبار على الرغم من صغر سنه ، وبذلك لعب مع كبار اللاعبين في أسفي آنذاك نذكر منهم ـ حسب رواية خالي رحمه الله ـ بدر الدين والسي محمد الوزاني ومولاي الطاهر والسي ابراهيم بن الطيب والبوعناني والوافي ومصطفى تولا ، وغيرها من الأسماء اللامعة في كرة القدم بمدينة أسفي . وكان الفريق الأسفي يسمى ب ” اليوساس ” والناظر في تركيبة هذا الفريق، يشعر بميزة أساسية ومهمة وذات وزن وقيمة ، جعلته يتبوأ مكانة رفيعة في التسامح والتعايش ، ويعكس روح الإخاء والمحبة والتساكن ، ذلك أن هذا الفريق كان يضم حارسا يهوديا يدعى ” بريدعة ” إلى جانب لاعبين آخرين من جنسيات أخرى من أمثال : اصلانيس ـ دوران ـ بيريز … وهذه الميزة التي عرفت بها أسفي منذ القدم ، جعلتها مدينة تتمتع على مر العصور والأزمان بأصول ثلاثة ، نجملها فيما يلي :
ـ إرادة ورغبة سكانها في التعايش ، وهو تعايش نابع من ذواتهم وليس مفروضا عليهم أو مرهونا بشروط مهما تكن مسبباتها .
ـ حبهم لخدمة الأهداف الإنسانية السامية وتحقيق المصالح البشرية العليا والحيلولة دون قيام أسباب المنازعات ، واستثمار كل الممارسات التي تهضم فيها حقوق الناس ، ومحاربة العنصرية والعرقية واستعلاء جنس على جنس تحت أي دعوى .
ـ صيانتهم لذلك التعايش بسياج من التقدير والاحترام المتبادل والثقة المتبادلة أيضا .
هكذا هم أهل أسفي منذ غابر الأزمان ، وعلى الأجيال اليوم صيانة هذه المكتسبات والعمل على إشاعتها وتداولها ، فهي الأكبر والأقوى على قيام حياة إنسانية حرة وكريمة في ظل الإيمان والخير والفضيلة وما فيه مصلحة الإنسان في كل الأحوال . وهذا ما يدفعني للحديث عن الأمر الثاني الذي أريد الإشارة إليه في هذه الكلمة ، وهو تأثير البيئة الأسفية في تكوين المرحوم السي محمد بلعربي ، وفي تشكيل شخصيته وطبعه بالأصالة والعمق والتأني والصبر والتثبت ، والحرص على تقديم الأجود من الأمور .. وقد يظهر ذلك في سلوكه وأخلاقه داخل الملاعب الرياضية أو مع أصدقائه وجلسائه أو أفراد أسرته .. فقد كان الرجل متواضعا لدرجة كبيرة ، ذا أخلاق فاضلة ، هادئ الطبع ،صادقا مع ذاته ،  يكره الغرور والغطرسة حتى وهو في أوج عطائه الكروي ، حيث استطاع أن يلقب كأول هداف للبطولة المغربية برسم الموسم الرياضي الكروي : 1953 / 1954 وذلك بتسجيله لثمانية عشر هدفا في شباك الفرق التي كانت تتبارى آنذاك على الفوز بالبطولة 
  كل هذه الصفات جعلت منه رياضيا من المستوى الرفيع . ولولا تلك البيئة الأسفية التي نشأ وترعرع فيها ، ما كان له أن يحقق مبتغاه . وانطلاقا من هذه البيئة ، استطاع السي محمد بلعربي أن يصل من خلال ممارسته لكرة القدم إلى مستويات عليا ، حيث نودي عليه للانضمام إلى منتخب الأمل المغربي سنة 1950 ، فلعب ضد فريق بلغراد ، وأخرى ضد فرق فرنسية ك، بوردو وتولوز .. وكان ـ رحمه الله ـ قريبا من الانضمام لمنتخب الكبار لولا الظروف التي حالت دون تحقيق هذا المبتغى ، بل إن فرقا أجنبية أبدت رغبتها في أن ينضم إليها ، لكن مسؤولي الفريق الأسفي غالبا ما كانوا متشبثين بخدماته ، فلم يسمحوا لهـ للأسف ـ بالاحتراف .
  هذا هو السي محمد بلعربي كما عرفته . فالذكريات كثيرة عن هذا الرجل ، والكلام متعدد الجوانب ، وليس من السهل على مثلي أن يعرف كل شيء عن المرحوم السي بلعربي . ومع القليل الذي ذكرته ، أرجو الله تعالى أن يجزي الراحل الكريم ، وأن يثيبه ويجعله من الذين خدموا بلادهم بوطنية خالصة ، وبصمت وصدق . ويكفي أنه عاش حياة حافلة بالعطاءات الرياضية وبالأخلاق الفاضلة . ونحن اليوم نذكر شيئا منها ، وذلك حتى نأخذ الدرس وحتى نتعظ ، وحتى نعرف أن هؤلاء الرجال الذين نودعهم قد أبلوا البلاء الحسن خلال حياتهم .
ونحن أيضا حين نثني ونذكر بأمثال هؤلاء ، فإنا على يقين مما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال : ” من أثنيتم عليه خيرا ، وجبت له الجنة . ” نسأل الله عز وجل أن يتغمد الفقيد الحاج محمد بلعربي بواسع رحمته ومغفرته .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

15 + 10 =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض