
سلايدرمعارف تربوية
معارف تربوية من خلال حِكَم ابن عطاء الله: 5
عبد الفتاح الفريسي
الحكمة الثانية: الإنسان والأسباب إرادة وتجريدا
يقول ابن عطاء الله السكندري: ” إرادتُك التجريدِ مع إقامةِ اللهِ إياكَ في الأسبابِ من الشهوةِ الخفيّة، وإرادتك الأسباب معَ إقامةِ اللهِ إياكَ في التجريدِ انحطاطٌ عن الهمةِ العليةِ”
التجريد في اللغة معناه الإزالة، ويقصد به هنا ترك الأسباب الدنيوية، والخروج من أسباب الدنيا، وطلب العيش، و كل ما يشغل الجوارح عن طاعة الله، والابتعاد عن كل وصف يباعد عن مشاهدة الله ومحبته.
ومعنى الحكمة أن من آداب الإسلام ومن حكمة الإيمان، أن يرضى المؤمن بما اختاره الله له، يقول النبي ﷺ: “وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس”، وليس معنى هذا أن لا يأخذ الانسان بالأسباب، فالأخذ بها واجب، ولكن القلب متعلق باختيار الله، ” وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ۗ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ” القصص: 68
فالمؤمن يقيم فيما أقامه الله، في عالم الجمال وعالم الجلال، في السراء والضراء، في المنشط والمكره، يعيش واقعه ويأخذ بأسباب الحياة، وهو موقن بالمشيئة الإلهية، والتدبير السابق في علم الله، يعلم أن الحق تعالى هو الذي ينقل من حال إلى حال، ” يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ” النور: 44
والذي يريد أن يحدث في الوقت ما لا يمكن أن يحدث فيه، هو في حقيقة الأمر يتمرد على الله، ويتدخل في ما لا يعنيه، ويسيئ الأدب مع ربه الفاعل المختار، وهذا عين الشهوة الخفية، والأنانية الذاتية، لأن النفس بذلك تقصد في الأصل الدعة والراحة، ولم يكن لها من اليقين ما تتحمل به مشاق الأخذ بالأسباب، وإنما كانت خفية لأن صاحبها يظهر الحق ويبطن الباطل، يظهر الترفع عن الدنيا والانقطاع عنها، وهو في الحقيقة يريد الراحة ويقصد الكسل والدعة، ومقام الإنسان حيث أقامه الله، فالاختيار اختيار الله.
فالله الذي يقول لنا: “وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ” القصص (68)، هو نفسه الذي يقول لنا: ” هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ” الملك: 15
فالأخذ بالأسباب إذن واجب، والاعتماد عليها خطأ كبير، وجهل عظيم، يقول رَسُوْل اللَّهِ ﷺ: “لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُوا خِمَاصاً وَتَرُوْحُ بِطَاناً (رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَة.
فالمؤمن كالزارع يشق الأرض ويزرع البذر، وقلبه معلق بالسماء، ينتظر المطر، وحين تسقى الأرض يأخذ بكل الأسباب المشروعة، وينتظر الحصاد، يده تعمل وقلبه معلق بالفاعل على الحقيقة، المريد المختار سبحانه وتعالى.
ومعنى ذلك أن المؤمن لا يخرج مما أقامه الله فيه، إلا بعد أن يخرجه الله منه، فكما تولى الله إدخاله في الأمر، سيتولى إخراجه منه، لأنه سبحانه وتعالى أرحم بعباده من الأمر بولدها، قال تعالى: “لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُون” الأنبياء (23)
يروى أن الإمام “البلخي” وهو من أهل العبادة والزهد، بعد أن درس على شيخه وأستاذه إبراهيم بن أدهم ودّعه للسفر للتجارة والأخذ بأسباب العيش، وهو في الطريق في الصحراء رأى شيئا عجيبا، رأى طائراً أعمى كسير الجناح، فوقف يتأمل في الطائر، ويفكر كيف يجد رزقه في هذا المكان المنقطع، ولم يمض وقت طويل حتى جاء طائر آخر، فأطعم الطائر الكسير كما يطعم الحمام فراخه، تعجب شقيق .. من هذا المشهد وأثر فيه، فقال في نفسه: إذا كان الله تعالى يرزق هذا الطائر من غير حول منه ولا قوة ولم يهمله، فلماذا أذهب أنا إلى التجارة، ولماذا العناء والسفر؟!
وحينما رجع إلى زار شيخه فسأله عن سبب رجوعه، فقص عليه البلخي القصة، فقال له إبراهيم بن ادهم: سبحان الله يا شقيق!.. ولماذا رضيت لنفسك أن تكون كالطائر الأعمى العاجز الذي ينتظر عون غيره، ولم ترض أن تكون كالطائر الآخر الذي يسعى ويكدح، وينفع نفسه ومن حوله ؟! أما علمت أن النّبيّ ﷺ قال: “الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى ” متّفقٌ عليه.
يقول عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه : لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق ويقول: اللهم ارزقني فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة .
والخلاصة: أن الرضا بحكم الله واختياره من أعظم المقامات الدينية، وأجل الأوصاف الإيمانية، والمؤمن دائم الرضا عن الله، في حالة الابتلاء بالتجريد من الأسباب الدنيوية يرضى، وفي حالة الابتلاء بأسباب الدنيا ومسؤولياتها يرضى، فأمره بذلك عجيب، وفكره لبيب، قَالَ رَسُولُ الله ﷺ: عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْراً لَهُ. رواه مسلم.