إني ذاهب إلى ربيسلايدر

الخطابُ الديني وروحانيةُ الأمل..

محمد التهامي الحراق

أصبحتْ تثارُ بين الحينِ والآخر أحاديثُ صاخبةٌ عن ظاهرةٍ أليمةٍ ما فتئت تخترقُ مختلف الشرائح والفئات؛ ربما كانت دوما قائمةً لكن الوعي بحضورها لم يكن بالشكل الحيوي الراهن بسبب ما صار إليه زماننا من انفتاح تكنولوجي وتواصلي غير مسبوق. يتعلق الأمر بظاهرة الانتحار. لن أنشغل هنا بأرقام إحصاءات الـمنتحِرين ولا بالأسباب الاقتصادية والاجتماعية والنفسية والتربوية للظاهرة في مجتمعاتنا الإسلامية، ولا بسُبُل تطويقهــا ومعالجتها والتخفيف منها؛ ما ألتقطه من تناولها هو دور “الخطاب الديني” في تمنيع النفوس ضد اليأس وتأميل القلوب في الفرج بعد الشدة، مما يقوي “المؤمنَ” ضد هذه الظاهرة ويجعلهُ في حرز وأمانٍ من الذهاب إلى الانتحار. إن الخطاب الديني يملكُ إمكاناتٍ هائلةً للدعم الروحي والتغذية الإيمانية والتمنيعِ البـاطني للمؤمن، بحيثُ يُقبِلُ على الحياةِ و”يُقدِّسُها” باعتبارها “عطاءً” إلهيـــا، و”يُقدِّس” الروح بوصفهــا “هِبَةً” ربانيةً، و”أمانة” يَملكُ الإنسانُ الحرُّ مسؤوليةََ تدبيرها، لكنه لا يَملكُ حقّ إعدامِها مــا دام لا يملكُ بشكلٍ ذاتيّ القـــدرة على إيجادها وخلقِها.

الخطابُ الديني، بهذا الاعتبار، يُبَوِّءُ الإنسانَ مِحورَ الكون، وحين يعتبرُ الإنسانَ “خليفةً” للهِ في الأرضِ[1]، فليسَ معنى ذلكَ أنه محورٌ بالتبعية لله لا بالأصالةِ كما تزعم ذلك الإنسيةُ الحديثةُ، والتي تدعو إلى إحلال الإنسان محل الله في مركز الكونِ، بل إن محوريةَ الإنسان ثابتةٌ في الخطابِ الديني “الإنسي”، و”الاستخلافُ” معناهُ، في هذا الأفق، حمايةُ الإنسانِ من نوازعِ الشر الفطريةِ فيه، والتي من مجَاليها نزوعُهُ إلى التدميرِ الذاتي عند اختلال توازنه الروحي. وبهذا يصبحُ وصلُ مركزيةِ الإنسان في الكون بكونهِ “مستَخلَفاً” وصلاً لهُ بالقيم المطلقةِ التي عليهِ أن يكرسً حياتهُ، ومن ثم حياة البشرية، من أجلها. إنه مسارٌ لا نهائي نحو التحقق بالكمال الإلهي في الأرض، وهذا ما لا يوصِدُ أبداً الأبوابَ أمام السعي الدائم نحو الكمالِ في الإسلام، والذي يحايثهُ إقرارٌ دائم بالنقص مما يَحُول دون “التألُّهِ” و”التَّصنُّم” ومن ثم يمنعُ من الوقوعِ في “الطغيان والتجبر”، كما يحايثهُ الأمل الدائمُ في الوصول وهو ما يحول دون “اليأس والعدمية”، وكلا الأمرين “الطغيانُ والتجبر” و”اليأس والعدميةُ” مُفضٍ إلى التدميرِ الذاتي. ولعل في هذا الفهمِ ما يجعلُ “الإنسية الدينية” أكثر قابلية لتفادي الانحرافات التي وقعت فيها “إنسيةُ” فكر الأنوار التي عصفتْ بوعودها التبشيريةِ النازيةُ والفاشيةُ والحروبُ العالميةُ..، وخانَتْها الممارسةُ التي أفضى فصلُ الإنسانِ فيها عن السماءِ إلى إطلاقِ نوازعِ الشرِّ فيه أكثرَ من تحرير قدراته الإبداعية، والتي نزعمُ أنهُ يمكن تحريرُها مع ترشيدِها في الخطاب الديني الإنسي.

قد يعترضُ معترِضٌ أن دماءَ الإنسانِ اليومَ تُراقُ باسمِ الدين، وأن “الانتحارَ” يُسارُ إليه باسم الدين، وإن تَقَنَّعَ بمعجم ديني وظيفتهُ شرعنةُ الفعلِ في نظر أهلهِ ليس إلا، أعني معجم “الجهاد” و”الاستشهاد”..إلخ. وهذا ما يجعل الخطابَ الديني يؤولُ إلى ذاتِ المآزقِ التي آل إليها الخطاب الإنسي الحديثُ، بل إن هذا الأخير لم يظهر في الغرب إلا من أجل وقْفِ الحروب الدينية القروسطية التي كانت تحارِبُ بشراسة وتقتلُ بعنفٍ تحت لواء الحقيقةِ الإلهية وبسيفِ الله وبدعوى امتلاك سر السماء والانفراد به. إنه اعتراضٌ وجيه، لكن ما يَدفعهُ هو أن الخطابَ الديني الإنسي الذي نفكّر فيه خطابٌ روحانيّ نقديّ؛ مثلما ينتقدُ “عدميةَ” الإنسيةِ الحديثة ولا روحانيتَها يَنتقدُ كذلك “أصوليَّة” الخطاب الديني المنغلِق ولا روحانيتَه؛ إذ الأولى تقتلُ “الله” باسم الإنسان وتطرده من فضاء الحياة الحديثة مما يَنتجُ معهُ “تصنيمُ” الإنسانِ و”تشييئُهُ”، ومن ثم “إطلاق نوازعِ الشر فيه”، والتي لم تستطعِ الأخلاقُ الوضعانيةُ كبحَها على أهمية ما ابتكرته من فلسفاتٍ وقوانين في ذلك؛ والثانيةُ تقتل “الإنسان” باسم اللهِ، وتُقصيهِ من الفعل الحرّ والمستقِل، مما ينتج معهُ “استعباد” الإنسان للإنسان باسم الله، وتصريفُ نوازع الشرّ فيه تحت عنوانِ نشر “الهداية” وإكراهِ الغير على “الحقِّ المطلقِ”. كلا الخطابينِ إذن مفضٍ إلى التدمير الذاتي.

الخطابُ الديني الإنسي هو، من جهةٍ، استدراكٌ للروحانية المفقودة في “الإنسية الحديثةِ” و”الأصولية الدينية” على حد سواء، روحانيةٌ عصفت بها “العدميةُ” التي انتهت إليها “الإنسية الحديثةِ” حينَ نظرت إلى الإنسانِ ككائنٍ مكتفٍ بعقلهِ عن روحه؛ وعصفت بها “الأصوليةُ الدينية” حينَ نظرت إلى “المؤمنِ” ككائن مكتفٍ بنصِّهِ “المُقَدّس” عن عقله. فيما الروحانيةُ تحتاجُ إلى عقل منفتِح على مختلف أبعاد الإنسان المادية الاختبارية والمعنوية الرمزية، مثلما تحتاجُ إلى “المُطْلَقِ” و”التعالي” اللذين يقويان قدرة العقلِ على حماية إنسانيةِ الإنسانِ و”تخليق” مساراتهِ في البحث اللانهائي عن المعرفة وتبديد المجهول؛ ذلك أن “العدميةَ” حين تُقصي “الله” تُقصي معهُ “الإنسان”[2]، و”الأصولية الدينيةُ” حين تُقصي “الإنسانَ” تُقصي معه “الله”. ومن ثم فإن الاحتفاءَ بالإنسانِ كمستخْلَفٍ لله يُحَوِّل عبادةَ الإنسانِ للهِ إلى تمجيدٍ للإنسانِ على الأرضِ، ويرفعُ من قيمةِ العقلِ وفعاليتهِ حينَ يلتفتُ إلى طاقةِ الروحِ وأبعادها الإبداعية. إنها جدلية العقل والروح التي أخفقت في تخصيبها “الإنسيةُ الحديثةُ” و”الأصولية الدينية” على حد سواء، وهو التخصيب الذي من شأنهِ أن يعيد للخطاب الديني الإنسيّ فعاليَّتهُ في السمو بالإنسانِ وإنقاذه من غفوات روحه وهفوات عقله سواء بسواء.

ثمة شرطان، في تأمّلِي المتواضع، لا مندوحة عنهما في هذا الخطاب الديني الإنسي المنشود، دونهما لا يمكن أن يضطلع بوظائفه في تفعيل العقل وتمنيع الروح، وهما النأي بهذا الخطاب عن “التسييس” و”التطقيس”؛ ذلك أن الزج بالخطاب الديني في صلب الملابسات والصراعات والتجاذبات السياسية تصيبهُ بآثار “الميكيافيلية” التي تستأسِدُ في الخطاب السياسي، وهو ما يُعْدِي الخطاب الديني بداءِ “فقدان المناعة الروحية”؛ وهو الداءُ نفسهُ الذي ينالُ هذا الخطابَ حين تفقِدُ العبادةُ أثرَها الأخلاقيّ وثمارها السلوكية، فتتحول الشعائرُ والمناسكُ إلى حركاتٍ وطقوسٍ بلا معنى أو أثر. لا يقتضي الشرطُ الأول، ضرورةً، اعتناق نوعٍ من “العَلمانية”، وإنما يستلزمُ وعيَ المسافةِ الضروريةِ بين خطابٍ ديني همهُ السموُ بالإنسانِ وتربية الضمائرِ على استحضارِ القيم والفضائل أثناء ممارسة السياسةِ، دونَ أن يفقِدَ الخطابُ الدينيّ هويتهُ الروحيةَ الكونيةَ القائمةَ على السعي الدائم لتجسير الهوة بين الواقعِ والمثال. مثلما لا يقتضي الشرط الثاني طرح الشعائر الدينية أو تركَها، بل يستلزمُ العمل على فتح هذا الخطاب على آفاقٍ روحية تجدد إيمان المؤمنينَ وتثَمِّرُ عباداتهم عملاً صالحا لفائدة الإنسانِ كيفما وأينما كان. بهذه المثابة يمكنُ للخطاب الديني الإنسي أن يكون فعالاً، هنا والآن، في دفعِ شبح التدمير الذاتي للإنسان، أكان انتحارا ماديا أم رمزيا، فرديا أم جماعيا، بل يمكنه أن يتحولُ إلى خطاب ينفخُ في الإنسان طاقةَ الحياةِ وروحانيةَ الأمل، تلك الروحانيةَ التي تقودهُ نحو الطمأنينةِ الأنطولوجية المنشودة.

 

[1]– قال تعالى: ) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ( (سورة البقرة، الآية 30).

[2]– يكتب عبد النور بيدار: “قال نيتشه في كتابه “غبطة المعرفة“، الفصل الخامس: “مات الله”، و”نحن قاتلوه”. مُذّاك، والغرب لم يكفَّ عن ترديد هذه المقولة/ الفاجعة. وقد آن الأوان لكي نفهم إلى أي حد كان هذا التصور الغربي للدين مُدَمِّراً، لأن إعلان موت الله هو في حقيقةِ الأمر قتل الإنسان. ولأن إقدام الإنسان على قتل اللهِ لا يمكنُ أن يكون إلا انتحاراً، بمعنى أن قتل اللهِ هو في الواقع قيام الإنسان بتصفية جميعِ ما يسمحُ بتجاوز ذاته، حيث إن الله هو المعنى الكامل والتام. وعليه فإن فإن تصورنا بأن الحداثة قد فتحت العهد لقتل الله، معنى ذلك أن الإنسان قد حكم على نفسه بالعيش في عالم يقدر فيه على إضفاء القداسة على حياته. ولعل الشاهد على ذلك هذا التضعضع النفسي، الأخلاقي، الروحي للفرد المعاصر الذي خارت قواه الداخليةَ واختزلها في عبادة أشياء تافهة لأناه الصغيرة”. (بيدار، عبد النور “كيف نُضفي القداسةَ على حياتنا؟“، ترجمة نور الدين ثنيو، ضمن كتاب “تمهيد لدراسة فلسفة الدين”، إعداد وتحرير د. عبد الجبار الرفاعي، دار التنوير، مركز دراسات فلسفة الدين- بغداد، 2014، ص.460).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إحدى عشر − 5 =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض