آراء ودراساتسلايدرمع قهوة الصباح

نظراتٌ في الدعاءِ الناصِري…في شفعِ الدعاء بالصلاة على النبي المختار(29)

محمد التهامي الحراق

دعما للأفق الروحاني في لحظات الابتلاء، واستحضارا لطاقة الدعاء عند الشدائد والضراء؛ كما تؤصل له المرجعية الإيمانية الجامعة بين البذل والتوكل، بين الأخذ بالأسباب وملازمة الدعاء؛ ننشر ها هنا نظرات في متن الدعاء الناصري(نسبة إلى الصوفي الكبير محمد بناصر الدرعي دفين تمكروت عام 1085هـ). ويعد هذا الدعاءُ واحدا من أشهر الأراجيز التوسلية التي اعتاد أهل المغرب استعمالها في باب التضرع عند الشدائد والمحن.

ما زلنا ننهلُ من مَأدبةِ المعاني الدينية الرفيعةِ التي تُهديها لنا قصيدةُ الناصرية، خصوصا وقد وصلنا إلى أبياتها الأخيرة التي جمعَ فيها الناظمُ بين الدعاء للأهل بالصلاح وللإمام بالنصر و للدين بالعزة ، وبين الإلحاحِ في هذا الدعاءِ والتذلل عند باب الكريم رَغَبا في القَبُول وطمعا في الاستجابة.
وعلى غرار مختلف نصوص المدائح والأذكار والتوسلات التي تُخبر عن مفتتَحها أو مختتَمها بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ها هو “الدعاء الناصري” يشفَعُ دلالات التضرعِ والتوسل والابتهال، بالصلاة على المصطفى صلى الله عليه وسلم، فيقول:

وصلِّ يا رب على المختار —
صلاتك الكاملة المقدار

ومعلومٌ شأو الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وشأنُها في الإسلام، فهذه الصلاة عبادةٌ جليلةٌ ذاتُ فضائلَ وثمارٍ شتَّى، ورد ذكرُها في جمٍّ من الأحاديث النبوية الشريفة. ويكفي في فخْرِ هذه العبادةِ أنهَا استجابةٌ لأمر إلهي رفيع، حيثُ صلَّى الحقُّ سبحانهُ في أزلهِ والملائكُ في الملإ الأعلى على النبي صلى الله عليه و سلم، وأمرَ بذلكَ المؤمنينَ بأمر سارٍ في الزمن لا ينقطِعُ أبد الآبدين. قال تعالى: “إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّء يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا”.
ثم إن الناظم وهو يصلي هنا على النبي الكريم، إنما يقدِّمُ بين يدي دعائِه صدقةً، ويَشْفَعُ ما سبقَ أن تضرَّعَ و دعا به بالصلاة على المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ لإدراكِهِ ما للصلاة على الحبيب عليه السلام من فضلٍ في قبول الدعاء و نيلِ الاستجابة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: “”كل دعاءٍ محجوبٌ دونَ السماء، فإذا جاءتِ الصلاةُ عليَّ صعد الدعاء”؛ ثم لعلمه أنَّ الصلاةَ على الحبيب لا ترد، فيكون ذلك من موجبات قبولِ ما اقترن بها من أدعية و ابتهالات. يقول أبو سليمان الداراني: “من أراد أن يسأل حاجته فليبدأ بالصلاة على النبي – صلى الله عليه وسلم – وليسأل حاجته، وليختِمْ بالصلاة على النبي – صلى الله عليه وسلم -، فإن الصلاة على النبي – صلى الله عليه وسلم – مقبولة، والله أكرم أن يرد ما بينهما”.

إن الناظم هنا ولعلمه بالقدر العالي لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، إذ هو الأسوة الحسنة، وسيد ولد آدم، وخاتِم الأنبياء و المرسلين، وحبيب الله، وصاحب المنزلة الرفيعة، وذو الخلق العظيم…إلخ؛ و نظرا لشعور الشيخ ابن ناصر بالقصور عن إيفاء حقه صلى الله عليه وسلم من التبجيل والتعظيم والتعزير والتوقير، فَقد توسل للعلي القدير أن يصلي عليه صلاةً كاملةَ المقدار تليق بمقام رسول الله عليه الصلاة و السلام، حيث قال:

وصل يا رب على المختار —
صلاتك الكاملة المقدار
صلاتَك التي تفي بأمره —
كما يليق بارتفاع قدره

أي صل اللهم عليه بصلاتك التي لا يعلم كَمَّها ولا كيفَها ولا مظهرَها ولا مخبَرها إلا أنت، صلاة توفيه قدره الرفيع وتليق بشأوه السامق وشأنه السامي الذي لا يُضاهى. ولما كان الناظم عن تَمَثُّل قدر المصطفى صلى الله عليه وسلم قاصراً كما أشرنا، وكان الحقُّ سبحانه بقدرِ نبيه وشأنه ورفعته عليماً، فقد أسند الناظم للمولى عز وجل الصلاةَ على نبيه بما هو أهلٌ له، وبقدر ما يَمْحَضُه من قُربٍ وحبٍّ واصطفاء. وهذا التفويض والإسناد يجمع بين التماسِ منتهى الأدب مع الله سبحانَه ورسولِه، وبين تحويل قصور العبد إلى بلاغةٍ ترومُ قول اللامحدودِ بإسناد الفعل إلى الرب المطلق. وهذا منحىً يختلفُ عن “بلاغة التكثير” التي قد نجدها في مختلف الصيغ التكثيرية الواردة مثلا في الصلوات النثرية المُتضمَّنة في كتاب “دلائل الخيرات”. و كِلَا المنحيين يرومُ الإشارة إلى الكم والكيف المفتوحين في الصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم، وكذا الإشارةَ إلى لانهائيةِ هذه الصلاة، واستحالةِ تقييدها باعتبارها ترجمانَ محبته التي لا حدَّ لا شط ولا ساحل لها. تلك المحبة التي تعد أكبر شفيعٍ للمتضرع كيما يشملَه عفوُ المولى وفضلُه وجودُه الذي به كلُّ العوالم يغرَقُ.

فلا عفوُه عن زلتي متقاصرٌ —
ولا فضلُه عن فسحةِ القصد ضيِّقُ
له خلق ألا يـــــــخيب ســــائلا —
وجـــــــودٌ بـــه كل العوالــم يغرق

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

2 × 1 =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض