
صدى رجالات أسفي في التاريخ – الحلقة 94
إعداد: الدكتور منير البصكري الفيلالي / أسفي
الحاج محمد البصكري الفيلالي
من مواليد مدينة أسفي عام 1929 بزنقة المنار الكبير بالمدينة العتيقة. أدخله والده السي امبارك بن ابراهيم كتاب الطالب “زميط ” قرب المسجد الأعظم لحفظ القرآن الكريم وتعلم أصول القراءة والكتابة. بعد ذلك ، ألحقه بمدرسة مولاي يوسف ليتابع دراسته الابتدائية .. وفيها درس على يد مجموعة من الأساتذة الأجانب في طليعتهم مدير المؤسسة آنذاك السيد “لوستو ” إلى جانب أساتذة مغاربة كالسيد “مولاي” واسمه الحقيقي استمر في الدراسة إلى أن حصل على الشهادة الابتدائية التي كانت تخول لحاملها متابعة الدراسة في مستويات أخرى، أو الحصول على وظيفة. وبما أن مدينة أسفي في ذلك الإبان، أي في عهد الحماية الفرنسية، لم تكن تتوفر على مستويات أعلى لمتابعة الدراسة بعد المرحلة الابتدائية في أسفي، فإن أغلب أبناء المدينة كانوا يكتفون بالحصول على الشهادة الابتدائية لينخرطوا في مجال العمل. وهو ما حصل للحاج محمد، حيث وجد عملا بإدارة مرسى أسفي، وهو العمل الذي ظل يشغله طيلة أربعين سنة، ساهرا على مصالح العمال بما يعود عليهم وعلى البلاد بالخير والنفع. فمصالح الناس أمانة، فكان يتفهم ظروفهم في رفق وأناة، يؤدي واجبه في إثارة ميول الخير ومعرفة مطالبهم. كان يشاركه في عمله زملاء أوفياء صادقين، لا يخشون في الحق لومة لائم، صرحاء في تصرفاتهم وسلوكياتهم. وهذه السلوكيات والأخلاقيات الفاضلة التي كان يتمتع بها هؤلاء الناس، دليل على ما كان يتمتع به أهل أسفي من نضوج فكري وعقلية هادئة متزنة وبصيرة ثاقبة. وكل هذه المقومات البشرية تهدي إلى الخير والفضيلة. نذكر من هؤلاء السي عبد الصمد الريكوش ومولاي الطيب الوزاني وغيرهما كثير ممن ربطته بهم صداقة توطدت عراها لسنوات طويلة إلى أن فرقهم الموت، رحم الله الجميع.
كان الحاج محمد متوسط القامة، فيه صباحة الوجه، جميل المطلع، وسيم المظهر العام، بسام ضحوك الوجه مع الناس جميعا ، أنيق الهندام لا تجد فيه سخف المترفين أو المتأنقين .. يعود ذلك إلى أثر التربية المنزلية المحافظة التي نشأ عليها، وللبيئة التي ترعرع فيها والتي كان من آدابها وتقاليدها التحمل والتجمل وعدم الإفشاء بالمتاعب أو التشاكي منها. وتلك كانت آداب أهل مدينة أسفي وتقاليدهم العريقة، فكانوا من خيرة رجالات هذا الوطن.
انخرط مبكرا في العمل الوطني للدفاع عن استقلال بلده، وكان ضمن الشباب الوطني في أسفي، ممن كانت تحركهم النزعة الوطنية لحفظ كرامة الوطن. من هؤلاء نذكر: ادريس الربيب وابن عاشور وأبو بكر الواحدي ومحمد بن عزوز والغزاوي ومحمد عزمي ومولاي أحمد البوعناني وابن سالم الشقوري ومحمد امجيد وغيرهم من شباب أسفي، كل من موقعه.
إلى جانب ما سبق، انخرط الحاج محمد الفيلالي منذ فترة مبكرة من عمره في النادي الأدبي الاستقلالي بأسفي، ذلك النادي الذي ساهم في تنشيط الحياة الثقافية والأدبية بمدينة أسفي ، وكان يضم خيرة شباب المدينة من الأدباء والولوعين والمهتمين، وكانوا جميعا يلتقون على موعد، ليتناشدوا الأشعار ويتناقشوا في مواضيع مختلفة في جو من الألفة والمودة، فلا يغادرون النادي إلا راضين، يلهجون بطيب اللقاء وبلطف وحسن المجلس. إضافة إلى هذا، فقد كان للحاج محمد عشق واهتمام كبير بطرب الآلة حفظا وأداء، وطالما شنف سامعيه بمواويله الأنيقة العذبة وما يسمى ب “البيتين”. فقد تلقى غير قليل من الصنائع على يد المعلم محمد لفداوش بتل الفخارين، كما عرف عنه أنه كان ضمن صفوة المسمعين والمادحين الذين أثروا مجال السماع والمديح بمدينة أسفي. ذلك أنه كان محبا للرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا الحب للرسول الكريم ، دفعه للقيام بثلاث وثلاثين زيارة (حجة) لبيت الله الحرام والتمتع أيضا بالنظر إلى مقام الرسول عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، إضافة إلى ثمان عمرات ، مما يكشف حقيقة هذا الحب الدفين الذي كان يسكن فؤاده رحمه الله.
إلى ما سبق، نذكر كذلك ولعه بممارسة الرياضة، فقد كان أيضا منخرطا في فريق الرشاد الرياضي الأسفي للملاكمة بين سنتي 1954 و 1955 ، وعضوا في الجامعة الملكية المغربية للملاكمة ( عصبة الجنوب ) سنة 1958 و 1959.
ومعلوم أنه كان من الملاكمين الألمعيين بأسفي، حيث ساهم بفعالية في تطور رياضة الملاكمة بهذه المدينة، مارسها في فترة شبابه ، وبالضبط منذ 1948. شارك في عدة مقابلات سواء بأسفي أو الصويرة ومراكش والبيضاء، إلى أن أصبح حكما في رياضة الملاكمة التي كانت تجد لها في مدينة أسفي مكانة كبيرة لدى عشاق هذا اللون من الرياضة لما لها من خصائص تتوافر لها .. من القدرة على التحمل والانضباط ، والتركيز واحترام الغير، والدفاع عن النفس والابتعاد عن الغرور .. كل هذه الخصائص عملت على نمو شخصية هذا الرجل الذي ظل يمارس هذه الرياضة بمعية أخيه السي أحمد الملاكم المتميز الحاصل على الكثير من الميداليات تؤرخ لتطور وتقدم رياضة الملاكمة في أسفي.
ولعل ممارسة الحاج محمد الفيلالي البصكري لهذه الرياضة، على الرغم مما فيها من المشقة والعنت والخطورة، فقد تحمل ذلك كله انطلاقا من إيمانه بالمثل الشائع في الهند الذي يقول: “خذ اللذة من الألم”. وفعلا، أخذها وعانى الكثير في سبيل هوايته .. وحتى بعد اعتزاله لممارسة هذه الرياضة، ظل يهتم بها للرفع من مستوى ممارسيها من الشباب الأسفي وإعدادهم وتدريبهم وفق برامج تدريبية مضبوطة، والأخذ بيدهم إلى الأفضل ماديا ومعنويا. فأسفي كانت ضمن المدن المغربية الأخرى التي برزت فيها رياضة الملاكمة .. ولعل أرشيف المدينة الرياضي غني بالمعلومات والأخبار عن مختلف الرياضات التي ازدهرت بالمدينة وأهم المحطات الرياضية التي عرفتها.
وبعد حياة غنية بالعطاء في المجالات السالف ذكرها، رحل الحاج محمد إلى دار البقاء يوم 27 يناير 1993 وله من العمر ثلاثة وستون عاما، ليدفن بروضة ” بوديس ” أكرم الله مثوى موتاها.